أربع ساعات مع نجيب محفوظ بالدنيا وما فيها (1-2)

أربع ساعات مع نجيب محفوظ بالدنيا وما فيها (1-2)

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
اقتربت من أذنه اليسرى أكثر ليسمعني بوضوح، وقلت له: "يا أستاذ نجيب لما حصلت حادثة الإعتداء عليك، أنا كنت في الجامعة ساعتها وكنت باكتب شعر ومن شدة تأثري بما حصل لحضرتك يومها، كتبت ثلاث قصائد في نفس اليوم عشان أعبر عن محبتي ليك وفرحتي بإن ربنا سلمك وخلاك لينا"، هز رأسه ثم نظر إلي وقال مبتسماً: "أشكرك جدا"، ثم أضاف ضاحكاً: "بس أرجو إنك ما تقراليش القصايد دلوقتي"، لأرى عندها وسط انفجاري في الضحك ضحكته الجميلة المجلجلة التي كتب محبوه وتلاميذه عنها كثيراً، ولتذيب ضحكته ما كنت فيه من ارتباك منذ أن مثُلت في حضرته.

لم يكن مبعث الارتباك رهبتي فقط من لقاء طال انتظاره بكاتبي الأعظم والأحب إلى قلبي من بين كل من أحببت من كُتّاب، بل كان مبعثه صدمتي وحزني حين رأيت تأثير محاولة الاغتيال الغادرة على صحته برغم مرور أربع سنوات على نجاته منها، في ذلك الوقت (يناير 1998) لم تكن الصحف قد اعتادت نشر صورته وهو يطلق ذقنه التي أصبح ينفُر من حلاقتها المزعجة له، كانت ذاكرتي لا تزال تحتفظ بصورته وهو يمشي متماسكاً رشيقاً لا تظهر عليه أمارات سنه، تلك الصورة التي ألفنا رؤيتها في البرامج والأفلام التسجيلية التي يذيعها التلفزيون عنه، وهي ذات الصورة التي رأيتها على أرض الواقع عام 1992 حين كمُنت مع زميل لي بكلية الإعلام أمام مبنى صحيفة (الأهرام) التي كان زميلي يتدرب فيها، وكان يعرف موعد اليوم الذي يتردد عليه الأستاذ نجيب على مكتبه في الأهرام، ومع أن رؤيتي للأستاذ نجيب وهو يدخل إلى مبنى الصحيفة لم تستغرق أكثر من ثوان، إلا أنني لا زلت أذكر كم غمرتني السعادة يومها، فأنا لم أعد أسكن فقط في نفس المدينة التي يسكن فيها الكاتب الذي غيّر حياتي بكتاباته، بل أصبح ممكناً أن أتواجد في نفس الأماكن التي يمشي فيها، مما يعني أنني يمكن أن ألتقي به يوماً ما، وربما تتاح لي فرصة الحديث معه وجهاً لوجه، ومع أن فرصة لقائه تأخرت كثيراً، لكنها والحمد لله جاءت بعد أن كنت أظنها لن تأتي أبداً، خاصة وقد أصبحت حركته أكثر محدودية وتنظيما منذ محاولة الإغتيال الحقيرة.

كنت قبل ذلك اللقاء بشهر قد شاركت في ملف أعدته صحيفة (الدستور) بمناسبة عيد ميلاده، واختار كل من المشاركين في الملف أن يكتب عن رواية يحبها له، واخترت أن أكتب عن أعظم رواياته وأجملها من وجهة نظري، رواية (ليالي ألف ليلة) والتي كانت تنتابني فرحة طفولية حين أردد اسمها لأحد فيقول لي أنه لم يقرأها أو لم يسمع بها، فقد كانت للأسف ولفترة طويلة أقل رواياته انتشاراً وشهرة، وأظنها لا زالت كذلك حتى الآن، ربما لأن الدراما السينمائية والتلفزيونية لم تقترب منها، وإن كنت قد حاولت بعد ذلك أن أقترب منها لكني اصطدمت بالواقع الإنتاجي المرير. بعد نشر الملف الذي كتبت فيه مقالاً بعنوان (لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم)، سعدت باتصال من الدكتور يحيى الرخاوي الطبيب النفسي الشهير وصديق نجيب محفوظ المقرب، وكان يكتب وقتها مقالاً أسبوعياً جميلاً في الصحيفة بعنوان (تعتعة)، قال لي الدكتور يحيى إن الأستاذ نجيب أعجب بالملف حين قرأه له، وأنه سعد جدا بما كتبته عن رواية (ليالي ألف ليلة) وأسعده أن يعجب شاب بالرواية التي قال مازحاً إن أغلب من يعبرون له عن إعجابهم بها عواجيز، لم يكن ممكناً بالطبع في مكالمة كهذه أن أضيع فرصة تحقيق رغبتي التي كبتّها من قبل كثيراً، في أن أطلب من الدكتور يحيى أن يساعدني على تحقيق حلم المثول في حضرة الأستاذ في لقائهما الأسبوعي الذي كان يعقد وقتها كل أربعاء بفندق سوفيتيل في المعادي، لأعض أصابع الندم على تأخيري لذلك الطلب، وأنا أسمع الدكتور يحيى يقول لي "معقولة ما قعدتش مع الأستاذ نجيب قبل كده.. طب ما قلتليش ليه من زمان".


كانت الصحف تنشر بانتظام أخباراً عن تطورات صحة نجيب محفوظ خلال فترة النقاهة الطويلة التي يخوضها مُذ نجّاه الله، وعن صعوبة رحلة العلاج الطبيعي الذي كان يمارسه ليستعيد القدرة على الكتابة بيده اليمنى، لكن أن تقرأ عن معاناته الصحية شيئ وأن تراها بنفسك شيئ آخر، لذلك كانت اللحظات الأولى من لقائه مريرة بالنسبة لي، منذ دخلنا إلى الصالون الذي خصصه الفندق للقاء الأستاذ بأصدقائه، كان بصحبته وقتها صديقه الأديب نعيم صبري الذي كان وقت دخولنا يمسك صحيفة الأهالي ويجلس إلى جوار الأستاذ نجيب مقترباً من أذنه اليسرى ليقرأ له مقالاً للكاتب الساخر ناجي جورج رحمه الله والذي كان ينشر مقالاً أسبوعياً جميلاً في الأهالي بعنوان (يوميات موظف)، وكان الأستاذ نجيب يستمع وهو مبتسم ويهز رأسه مستحسناً لما يسمعه، حتى انتهى نعيم من القراءة، فضحك الأستاذ نجيب بشدة مبديا اعجابه بكتابة ناجي جورج. أخبره نعيم صبري بوصولنا، فأعلن ترحيبه بوصولنا وهو يجيل بصره في المكان معتذراً لصديقه الدكتور يحيى أنه لم يرحب بنا فور وصولنا، حزنت حين أدركت أنه برغم أن الغرفة ليست ضخمة الحجم، لا يرى من في أطرافها بسهولة، قام الدكتور يحيى بتقبيله وتحيته، ثم اقترب من أذنه لكي يعرفه بي، وحين وجدت نفسي أمامه وجهاً لوجه، جاهدت نفسي لمنع رغبة عارمة في البكاء، خاصة بعد أن مددت يدي لكي أصافحه بحرارة، ثم تذكرت إصابة يده اليمنى فارتبكت ولامست أطراف أصابع يده بالكاد، قبل أن أعود مضطرباً إلى مقعدي، لتزداد رغبتي في البكاء وأنا أراه يحاول تحريك يده بصعوبة ليتناول فنجان القهوة الموجود أمامه والذي كان يأخذ منه رشفة سريعة، قبل أن يعيده إلى مكانه فيما بدا أنه رغبة في التدريب على تحريك يديه بشكل طبيعي.

نظر الدكتور يحيى إليّ فرآني أجلس صامتاً مرتبكاً، كان وقتها قد جلس مكان نعيم صبري إلى جوار الأستاذ نجيب، فقال للأستاذ إنه سيترك مكانه للأجيال الشابة مشيراً إليّ أن أجلس مكانه لأتحدث مع الأستاذ نجيب، ولا زلت أذكر أنني بمجرد أن جلست إلى جواره ظللت للحظات أتأمل ملامحه التي كنت قد حفظتها من الصور، أذناه الكبيرتان، تجاعيده، الحَسَنة العملاقة التي تزين وجهه، حتى ملابسه يومها بدت لي شبيهة بما كنت أراه يرتديه في الصور، كنا في الشتاء، وكان يرتدي معطفاً أسود اللون، لم يكن قد تحدث كثيراً منذ دخلنا الغرفة، لكن صوته كان لا يزال يحتفظ بنبراته المميزة التي حفظتها من برامجه الإذاعية والتلفزيونية التي كانت تذاع بكثافة منذ حصل على جائزة نوبل. لفت انتباهي أنه كان يضع يده اليسرى فوق يده اليمنى المصابة طيلة الوقت وقد أطرق بوجهه إلى الأرض لأنه لم يكن أحد يتحدث معه وقتها، فقد كنت أنا الجالس إلى جواره وكنت لا أزال صامتاً مرتبكاً، وحين رأيت الدكتور يحيى ينظر إليّ مستغربا لماذا لم أتحدث، ولأنني كنت لا بد أن أبدأ الحديث، وجدت نفسي لا أدري لماذا، أبدأ بالحديث معه عما كتبته من شعر عقب محاولة اغتياله، في تلك القصائد التي حملت عنوان (الشيخ والكلاب)، ليرد علي برده الساخر، ويبدأ بعد ذلك حواري معه الذي أدهشني فيه حضور بديهته وذاكرته الثاقبة وقدرته على أن يقول الكثير دون أن يتكلم كثيراً.


بدأ الحديث بسؤال عن قراءاته خاصة بعد أن لاحظت وجود بعض الصحف والكتب على الترابيزة المواجهة له، فقال الأستاذ نجيب إنه ينتظر كل يوم في بيته في تمام الساعة العاشرة صباحاً قارئه المنتظم ـ وصديقه فيما بعد ـ الحاج صبري والذي كان قد رشحه له تلميذه وزميله في الأهرام فتحي العشري، كان الحاج صبري يقرأ له عناوين ثلاثة صحف يومية (الأهرام والأخبار والوفد)، يقول الأستاذ: "للأسف لم أعد أقرأ مقالات الجرائد اليومية.. زمان قبل العَجَز اللي جالي كنت أقرأ كل الجرايد المصرية بكل ما فيها، وكمان كنت أشتري مجلة التايم الأمريكية وأقرأها.. يوم الأحد يقرأ لي الأستاذ نعيم عناوين مجلة روز اليوسف ويوم الأربعاء يقرأ لي عناوين الأهالي وبعض ما فيها أما الدستور فيقرأها لي الدكتور يحيى في جلسة الحرافيش كل خميس"، كانت بعض عناوين المقالات تستوقفه أحيانا فيطلب من أصدقائه قراءتها، وحين سألته عن آخر مقال لفت انتباهه في الدستور، أثنى على مقالتين كان قد كتبهما الكاتب الكبير سيد خميس عن فكر الرئيس الإيراني محمد خاتمي.

سألته مشاغباً: "هل تابعت بعض الكتابات الجديدة يا أستاذ نجيب وأعني التي يكتبها شبان فعلاً لأن البعض لا زال يعتبر أن جمال الغيطاني ويوسف القعيد وجيلهما كتاب شبان"، ضحك بتحفظ، ثم قال إنه استمع إلى عدد من القصائد والقصص لأدباء جدد، سألته عن رأيه العام فيها دون ذكر أسماء، فقال لي: "للأسف.. لم أتفاعل معاها خاصة الشعر لم أفهمه ولم أتفاعل معه.. مع إني متساهل جداً ولا أشترط شروطا معينة للاستماع أو التذوق.. لكن للأسف لم أتجاوب معه". ثم صمت قليلا وأضاف: "لكن أنا لا أعتبر نفسى مقياسا للحكم.. أى ظاهرة أدبية تلاقي نقاد وقراء تبقى حقيقة على طول".

كنت يومها أنظر بنفور شديد إلى قصيدة النثر وإلى الكتابة الجديدة في الرواية قبل أن تتطور ذائقتي مع مرور الوقت وتنوع القراءات، ولذلك حاولت أن أرد على استدراكه الذي يبدو لي الآن شديد الحكمة والذكاء، فقلت له: "لكن يا أستاذ نجيب للأسف الظواهر الأدبية التى تتحدث عنها والتى استمعت إليها ولم تتفاعل معها بذوقك السليم وجدت نقادا فقط ولم تجد قراء"، سألني مستوضحاً: "كده! إزاى؟"، قلت له: "أرقام التوزيع تثبت أن هذه الأعمال تظل مجرد أصوات لا تصل إلا إلى فئات محدوة جدا من النخبة المثقفة، ولذلك تفقد تأثيرها وفاعليتها وتتحول إلى ألغاز مفاتيح حلها مفقودة"، صمت قليلا ثم قال: "الفرق بين أيامنا وأيامكم أن أول ما كتبناه وجد قراء ونجاحاً قبل أن يلتفت إليه النقاد.. يعنى سيبك من اللى كتبه عني سلامة موسى.. ده كان إهداء وتشجيع.. أول ما كتبته أنا وزملائى فى لجنة النشر للجامعيين نجح جداً وأقبل الناس عليه وربحت اللجنة من وراء نشر كتبنا، وإلا لما كانت استمرت.. دلوقتي للأسف ما بتلاقوش ده .. يعنى إحنا لو لم ننجح لما كان ممكنا أن ننشر..أنا أذكر أن القصص اللى كتبتها فى مجلة الرسالة جاءنى أحمد حسن الزيات وقال لي: مش هتجمع القصص دى فى كتاب؟، فرحت وفكرت أنه سينشرها لي وفوجئت به يقول لى "مش هتكلفك كتير على فكرة". يضحك الأستاذ ثم يضيف فأفهم سر ضحكته: "لقيت إني لو عملت كده هاخسر القرشين اللى كنت محوشهم عشان أروح بيهم اسكندرية.. قلت أروح اسكندرية أحسن.. عشان كده لجنة النشر للجامعيين حلت مشكلة جيلنا في النشر ونجاح تجربتها ما خلاناش نضطر لفكرة النشر على حسابنا.. لكن دلوقتي أدباء كثيرين بيضطروا للنشر على حسابهم".

حين جاءت سيرة النقاد، رفع الدكتور يحيى الرخاوي صوته وحكى للأستاذ عن ندوة أدبية حضرها لمناقشة عمل روائي، وفوجئ أن كتاباً مهمين من الذين شاركوا فيها لم يقرأوا أصلاً العمل الذى تتم مناقشته، ضحك الأستاذ وقال له: "مش جايز يكونوا ما عرفوش يقرأوا الرواية"، انتهزت الفرصة للتوسع في المشاغبة التي كانت بالنسبة لي وقتها هدف حياة، وقلت للأستاذ: "للأسف النقاد الآن يمارسون دوراً سلبياً.. يدعمون أعمالاً لا تستحق على الإطلاق مجاملة لأصحابها.. وبعض الموظفين تحولوا إلى مبدعين يجدون من يهلل لهم من النقاد لأنهم يجاملون هؤلاء النقاد.. وبعض النقاد الكبار مثل الدكتور على الراعي يكتب عن أعمال متواضعة بمبالغات.. يقول عن كاتبة متواضعة أنها تكتب برائحة تشيكوف وعندما يذهب القارئ ليقرأ يجد روائح أخرى فيفقد ثقته"، بدا أن الأستاذ نجيب متحفظ على ما قلته، وبعد صمت رد قائلاً: " الدكتور على الراعى يكتب مايمكن ان تسميه النقد الأبوى.. يحتفى بالجميع ويرحب بهم ويقدمهم للقارئ وهذا دور مهم"، أدركت أن الأستاذ نجيب لا يريد التوسع في هذا الموضوع، فقلت له: "عموماً.. هناك أدباء جدد متميزون.. ولكن للاسف لا يجدون من يدعمهم من النقاد.. فقد تسيد الغثاء والغموض.. بينما المواهب الحقيقية لا تجد من يساندها"، ووعدته أن أحضر له مجموعة "روح الروح" للقاص وفيق الفرماوي ـ لم يكن قد رحل وفيق وقتها عن الدنيا، وكنت متحمساً لمجموعته الجميلة، التي صدرت وقتها عن هيئة الكتاب.

انتقلنا إلى موضوع آخر عندما تحدث الدكتور يحيى الرخاوي عن سؤال ناقشه فى ندوة بمعرض الكتاب عن دور المثقفين في المجتمع، قائلاً إنه يعتقد أن المثقفين فقدوا قدرتهم على التأثير والفاعلية، وحين سأل الأستاذ عن رأيه في هذا الموضوع، قال الأستاذ نجيب: "بشكل عام أقدر أقول لك أن طابع الثقافة دائماً أنها تؤثر على المدى البعيد ولا تحقق تأثيراً وقتياً.. وأنا فى رأيي أن الخطر الآن على الثقافة ليس من السلطة فهى تسمح للمثقفين أن يكتبوا أو يتكلموا، إنما الخطر على الثقافة الآن هو من الإرهاب"، أضاف الدكتور الرخاوى: "ومن الفكر التقليدى الرجعى أيضا"، وحكى له عن مقالة الكاتب رضا البهات التى تحدثت فى (الدستور) عن بعض الفضائح الموجودة فى مناهج الأزهر، فهز الأستاذ نجيب رأسه ولم يعلق.

كان واضحاً أن الأستاذ نجيب لا يفضل في جلسة مثل هذه أن يتطرق إلى موضوعات ثقيلة، لكن بعد قليل انتقل الحديث إلى مقال جاء في كتاب الدكتور رفعت السعيد (ضد التأسلم) والذي كانت صحيفة الأهالي قد نشرته كاملاً قبلها بأسبوع، حيث برر رفعت السعيد في المقال قيام الأهالي بنشر رواية (أولاد حارتنا) بدون إذن نجيب محفوظ، وهو ما أغضب الأستاذ كثيراً وقتها، قال الرخاوي للأستاذ نجيب إن رفعت السعيد قال فى مقاله ما معناه: "عموما لو كان الاستاذ زعلان من الناحية القانونية إحنا مستعدين لتعويضه مادياً"، وضحك الأستاذ بشدة قائلاً: "يعني هى الحكاية فلوس وبس، معقولة؟"، ثم صمت قليلاً وأضاف مبتسماً: "محمد سلماوى برضه قال لى إن فيه مسرحية معمولة عن أصداء السيرة الذاتية وكاتبين اسمي وناشرين صورتي فى الإعلان.. قلت له ما حدش أستأذن منى أبداً.. حتى ياريتهم كانوا أعطونى كرسى أنا والمدام فى الصف الأول"، قلت له موضحاً إن المسرحية أعدها شاعر شاب عن الأصداء برؤية خاصة له، يعنى يمكن أن تعتبر عملاً مستقلاً بذاته، فقال بحماس لما سمعه: "إذا كان كده.. يبقى ده موضوع تاني بس برضه كنت أحب يعزموني وأشوف عملوا الموضوع إزاي؟"، سألته عن تطورات موقفه من (اليونسكو) الذى نشر كتابه (أصداء السيرة الذاتية) في ملحق صحفي تم نشره فى جميع الدول العربية دون استئذانه.. فقال: "جاءني فى بيتي الشاعر العراقي المشرف على المشروع هو ومحمد سلماوي واعتذر لي وقال إنه طلب من البعض إن يستأذن مني وأنهم قالوا له إنني موافق وأنه لو كان يعلم أني غير موافق لما نشر.. وقلت له خلاص مافيش مشكلة".

عند هذه النقطة، وجدت الفرصة سانحة لطرق موضوع يشغل الأوساط الثقافية ولم أكن سأخرج مرتاح الضمير لو لم أطرحه عليه، قلت له: " يا أستاذ نجيب.. معلهش واعذرني لصراحتي.. ألا يطرح هذا سؤالاً محرجاً.. طبعاً هناك أصدقاء مخلصين حولك.. لكن هناك البعض ممن يطلق عليهم فى الوسط الثقافى سخرية اسم "جمعية المنتفعين بنجيب محفوظ"، ولن أذكر لك أسماء.. لكن الموقف الذى ذكرته الآن يثبت وجودهم.. بالإضافة إلى أنهم أحيانا يبلغون عنك آراء للناس وكأنهم المتحدث الرسمى بإسمك.. حتى أنني سمعت أحدهم يقول لكاتب شاب إنك معجب جدا بعمله، وحين كنت أسألك عن قراءاتك منذ قليل وجدت أنك لم تسمع بهذا العمل أصلاً، والله أعلم بما يقال أيضا على لسانك، ما رأيك في هذه الظاهرة يا أستاذنا؟"، صمت لبرهة ثم قال: "طبعا ده شئ ردئ جدا"، ثم أضاف مبتسماً: "بس لما يقولوا أن نجيب بيقول حلو أحسن ما يقولوا وحش"، وبعد أن ضحكنا أضاف قائلا "لكن الحمد لله عندي أصدقاء رائعين هم مصادر ثقافتى الآن واتصالى بالدنيا"، لتحرجني الإجابة فأشعر بالخجل لأنني نسيت حاجة الرجل الماسة في هذا السن وهذه الظروف الصحية، إلى وجود أصدقاء حوله دائما أيا كانت الآثار الجانبية المترتبة على ذلك، وإن كنت بعد ذلك قد سعدت حين عرفت أن حواري مع الأستاذ قد أثار بعد نشره ضيق بعض من كنت أقصدهم حين تحدثت عن "المنتفعين من نجيب محفوظ"، لكن ذلك لم يمنعهم للأسف من الانتفاع به والارتزاق باسمه.

نكمل غداً بإذن الله وفي الجزء الثاني من الحوار يتحدث نجيب محفوظ عن يوسف إدريس وعباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وجمال الغيطاني وإبراهيم عبد المجيد وصلاح أبو سيف وفيفي عبده أيضاً.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.