22 فبراير 2016
وهم الظلم المؤقت!
هل يمكن للظلم أن يكون مؤقتاً؟ هل يمكن أن يعرف العدلَ والتقدمَ مجتمعٌ يتسامح مع الظلم الذي تمارسه السلطة، لمجرد أن أذرع السلطة الإعلامية تدّعي أن هذا الظلم مؤقت، وأنه ضروري، من أجل تحقيق الاستقرار وتدعيم الأمن؟ وهل عرف العالم كله سلطة تقوم بتمكين حكمها عبر الظلم، ثم تتذكر العدل بعد ذلك؟
في روايته البديعة، "قالت ضحى"، يحكي الكاتب العظيم بهاء طاهر حواراً يدور بين شخصيتين من شخصيات الرواية، يمكن أن يجيبك عن كل هذه الأسئلة، حيث يذكّر أحدهما الآخر بالأيام التي كان فيها حريصاً على تحقيق أحلامه الإنسانية والوطنية كاملة، من دون التنازل عن شيء منها، ويسأله عن السبب الذي جعله يتنازل عن تلك الأحلام، قائلاً له بحرقة وأسىً: "لماذا تقول هذا الكلام، الآن، يا حاتم؟ كنت تقول كلاماً غير هذا، عندما دخلت هيئة التحرير، وعندما صممت أن تواصل لمّا انسحبت أنا. صدقني كان جزء من نفسي سعيداً بك، لأننا ما زلنا نحاول، فلماذا، الآن، تخذلني وتخذل سيد وتخذل نفسك؟".
وكما يفاجئنا بهاء طاهر، فإن حاتم لم ينكر ما قاله له صديقه، بل اعترف بما قاله، مدافعاً عن نفسه بكلام يشكل جوهر دفاع المدافعين، الآن، عن الظلم المؤقت، ولنقرأ سوياً هذا المقطع الطويل الملهِم من الرواية: "قال حاتم: تسألني لماذا الآن؟ لأنني عرفت أن الحية لا تموت أبداً.. إننا نحاول عبثاً معها، لأنها تلتف حول الأرض. ثم قام حاتم، وعاد وراء مكتبه، وراح يتكلم، وهو ينقر بأصابعه على المكتب نقرات رتيبة، وهو يقول: يحيرني هذا الأمر منذ زمن، مذ كنت أعد الدراسات العليا، تركت القانون، ورحت أقرأ في التاريخ، وأسأل نفسي لماذا يحدث ذلك كله؟ قلت: سأحاول كل شيء، ولن أستسلم، ولكني اكتشفت أن الظلم لا يبيد.. ما الحل؟ أن تحدث ثورة على الظلم. نعم تحدث تلك الثورة.. يغضب الناس، فيقودهم ثوار يعدون الناس بالعدل وبالعصر الذهبي، ويبدأون كما قال سيد: يقطعون رأس الحية.. ولكن، سواء كان هذا الرأس اسمه لويس السادس عشر، أو فاروق الأول، أو نوري السعيد، فإن جسم الحية على عكس الشائع لا يموت، يظل هناك تحت الأرض، يتخفى، يلد عشرين رأساً، بدلاً من الرأس الذي ضاع، ثم يطلع من جديد.
واحد من هذه الرؤوس، اسمه حماية الثورة من أعدائها، وسواء كان اسم هذا الرأس روبسبير، أو بيريا، فهو لا يقضي، بالضبط، إلا على أصدقاء الثورة، ورأس آخر اسمه الاستقرار، وباسم الاستقرار يجب أن يعود كل شيء كما كان قبل الثورة ذاتها. تلد الحية رأساً جديداً، وسواء كان اسم هذا الرمز يزيد بن معاوية، أو نابليون بونابرت، أو ستالين، فهو يتوج الظلم من جديد، باسم مصلحة الشعب، يصبح لذلك اسم جديد: الضرورة المرحلية، الظلم المؤقت إلى حين تحقيق رسالة الثورة، وفي هذه الظروف، يصبح لطالب العدل اسم جديد، يصبح يسارياً، أو يمينياً، أو كافراً، أو عدواً للشعب، حسب الظروف. ثم نظر إليّ حاتم بعينين مختلفتين، وقال: كنت أظن أنه يكفي لإصلاح حال أسرتي أن ينصلح حال البلد، فاكتشفت أنه لا بد أن ينصلح حال العالم، وأن ذلك مستحيل، قل لسيد القناوي أن يتعلم هذا الدرس المهم جداً، لا تموت الحية أبداً.
نهضت، وأنا أقول: لن أقول له شيئاً من هذا النوع، لديه الآن ما يكفي من اليأس. ولكن، هل تعلم يا حاتم؟ ربما يكون هو الوحيد بيننا الذي على حق، قد يكون ما تقوله صحيحاً، قد لا ينقذ من يطلب العدل العالم، وقد لا يقضي على تلك الحية، لكنه ينقذ نفسه. فقال حاتم: حتى ولو دمّر نفسه، وهو يطلب العدل. فقلت، وأنا عند الباب: نعم، ما سبب ذلك الجرح في جبينك يا حاتم؟ ألم يكن من الممكن أن يدخل في جمجمتك؟ ألم يكن من الممكن أن تموت، وأنت تطلب العدل؟ أنا أعرف يا حاتم أن طلب العدل مرضٌ، لكنه المرض الوحيد الذي لا يصيب الحيوانات، كل ما في الأمر أننا، أنا وأنت، شفينا من هذا المرض، فأصبحنا نرى أعراضه على الآخرين".
ولا أملك، بعد استعادة هذه السطور الجميلة الملهمة، إلا أن أدعو: "اللهم اكفنا شر أنصار وهم الظلم المؤقت، ومبرريه ومنظريه، وإذا ظن الناس أن طلب العدل مرضٌ، فلا تشفنا منه أبداً، حتى لو شُفي منه كثيرون من الذين ظلوا طوال حياتهم فخورين بإصابتهم بمرض طلب العدل".
في روايته البديعة، "قالت ضحى"، يحكي الكاتب العظيم بهاء طاهر حواراً يدور بين شخصيتين من شخصيات الرواية، يمكن أن يجيبك عن كل هذه الأسئلة، حيث يذكّر أحدهما الآخر بالأيام التي كان فيها حريصاً على تحقيق أحلامه الإنسانية والوطنية كاملة، من دون التنازل عن شيء منها، ويسأله عن السبب الذي جعله يتنازل عن تلك الأحلام، قائلاً له بحرقة وأسىً: "لماذا تقول هذا الكلام، الآن، يا حاتم؟ كنت تقول كلاماً غير هذا، عندما دخلت هيئة التحرير، وعندما صممت أن تواصل لمّا انسحبت أنا. صدقني كان جزء من نفسي سعيداً بك، لأننا ما زلنا نحاول، فلماذا، الآن، تخذلني وتخذل سيد وتخذل نفسك؟".
وكما يفاجئنا بهاء طاهر، فإن حاتم لم ينكر ما قاله له صديقه، بل اعترف بما قاله، مدافعاً عن نفسه بكلام يشكل جوهر دفاع المدافعين، الآن، عن الظلم المؤقت، ولنقرأ سوياً هذا المقطع الطويل الملهِم من الرواية: "قال حاتم: تسألني لماذا الآن؟ لأنني عرفت أن الحية لا تموت أبداً.. إننا نحاول عبثاً معها، لأنها تلتف حول الأرض. ثم قام حاتم، وعاد وراء مكتبه، وراح يتكلم، وهو ينقر بأصابعه على المكتب نقرات رتيبة، وهو يقول: يحيرني هذا الأمر منذ زمن، مذ كنت أعد الدراسات العليا، تركت القانون، ورحت أقرأ في التاريخ، وأسأل نفسي لماذا يحدث ذلك كله؟ قلت: سأحاول كل شيء، ولن أستسلم، ولكني اكتشفت أن الظلم لا يبيد.. ما الحل؟ أن تحدث ثورة على الظلم. نعم تحدث تلك الثورة.. يغضب الناس، فيقودهم ثوار يعدون الناس بالعدل وبالعصر الذهبي، ويبدأون كما قال سيد: يقطعون رأس الحية.. ولكن، سواء كان هذا الرأس اسمه لويس السادس عشر، أو فاروق الأول، أو نوري السعيد، فإن جسم الحية على عكس الشائع لا يموت، يظل هناك تحت الأرض، يتخفى، يلد عشرين رأساً، بدلاً من الرأس الذي ضاع، ثم يطلع من جديد.
واحد من هذه الرؤوس، اسمه حماية الثورة من أعدائها، وسواء كان اسم هذا الرأس روبسبير، أو بيريا، فهو لا يقضي، بالضبط، إلا على أصدقاء الثورة، ورأس آخر اسمه الاستقرار، وباسم الاستقرار يجب أن يعود كل شيء كما كان قبل الثورة ذاتها. تلد الحية رأساً جديداً، وسواء كان اسم هذا الرمز يزيد بن معاوية، أو نابليون بونابرت، أو ستالين، فهو يتوج الظلم من جديد، باسم مصلحة الشعب، يصبح لذلك اسم جديد: الضرورة المرحلية، الظلم المؤقت إلى حين تحقيق رسالة الثورة، وفي هذه الظروف، يصبح لطالب العدل اسم جديد، يصبح يسارياً، أو يمينياً، أو كافراً، أو عدواً للشعب، حسب الظروف. ثم نظر إليّ حاتم بعينين مختلفتين، وقال: كنت أظن أنه يكفي لإصلاح حال أسرتي أن ينصلح حال البلد، فاكتشفت أنه لا بد أن ينصلح حال العالم، وأن ذلك مستحيل، قل لسيد القناوي أن يتعلم هذا الدرس المهم جداً، لا تموت الحية أبداً.
نهضت، وأنا أقول: لن أقول له شيئاً من هذا النوع، لديه الآن ما يكفي من اليأس. ولكن، هل تعلم يا حاتم؟ ربما يكون هو الوحيد بيننا الذي على حق، قد يكون ما تقوله صحيحاً، قد لا ينقذ من يطلب العدل العالم، وقد لا يقضي على تلك الحية، لكنه ينقذ نفسه. فقال حاتم: حتى ولو دمّر نفسه، وهو يطلب العدل. فقلت، وأنا عند الباب: نعم، ما سبب ذلك الجرح في جبينك يا حاتم؟ ألم يكن من الممكن أن يدخل في جمجمتك؟ ألم يكن من الممكن أن تموت، وأنت تطلب العدل؟ أنا أعرف يا حاتم أن طلب العدل مرضٌ، لكنه المرض الوحيد الذي لا يصيب الحيوانات، كل ما في الأمر أننا، أنا وأنت، شفينا من هذا المرض، فأصبحنا نرى أعراضه على الآخرين".
ولا أملك، بعد استعادة هذه السطور الجميلة الملهمة، إلا أن أدعو: "اللهم اكفنا شر أنصار وهم الظلم المؤقت، ومبرريه ومنظريه، وإذا ظن الناس أن طلب العدل مرضٌ، فلا تشفنا منه أبداً، حتى لو شُفي منه كثيرون من الذين ظلوا طوال حياتهم فخورين بإصابتهم بمرض طلب العدل".