من اللحد إلى المهد

من اللحد إلى المهد

29 يوليو 2018
+ الخط -
في المشهد الأخير من حياة "ابنٍ ضال"، جازف يومًا بالخروج على طاعة السيد الرئيس بشار الأسد، ثم قاده حظّه العاثر إلى بلوغ "يوم الحساب" بين قبضات زبانية النظام وجلاوزته، كان مطلوبًا من هذا الابن أن يردّد، تحت وقع الركل والصفع والسحق، عبارة واحدة فقط: "يعيش بشار الأسد"، غير أن هذا "التطهّر" الإجباري لم يشفع له بدخول "الجنة"؛ فقد تلقى زخّاتٍ متلاحقةً من الرصاص الذي مزّق جسده.
والحال أن مثل هذا المشهد تكرر كثيرًا في المأساة السورية، وتناقلته وسائل الإعلام، كثيرًا، غير أنه لم يستوقف أحدًا، إلا من جهة تسليط الضوء على حجم الوحشية التي يتمتع بها "حماة النظام"، وفق مسمّاهم الواقعي، و"حماة الديار" وفق التعريف الافتراضي.
من جهتي، أرى أن هذا المشهد يختصر حياة الإنسان العربي، برمتها، من "اللحد إلى المهد"، وأعني ذلك حرفيًّا؛ لأن المواطن العربي يعيش حياة معكوسة، ولأن حياته برمتها تظلّ محصورةً بين قوسين معلومين، يفتتح الأول بعبارة "يعيش الزعيم"، ويغلق الثاني بالعبارة ذاتها، والويل كل الويل لمن يتجرّأ على كسر أحد القوسين، ومحاولة التحرّر منهما، على غرار ما فعل الابن الضال السوري في المشهد السابق، مع الاعتذار للمخرج الراحل يوسف شاهين على اختطاف عنوان فيلمه القديم "عودة الابن الضال"، وخلعه على الفيلم العربي الحديث الذي نعيش أحداثه اليوم، لكن مع اختلاف المضمون والنهايات؛ لأن عودة "الابن الضال" الجديد لا تعفيه من العقاب.
في الفيلم الجديد، لم يكن يعرف الابن الضال أنه اقترف أفدح ذنبٍ على الأرض العربية، وأعني به "الشرك بالزعيم" الذي كان قد شهد أن لا زعيم غيره، منذ لحظة ولادته، حتى وإن لم يكن يتقن الكلام، فالولادة في بلد الزعيم، تعني، حكمًا، الولاء للزعيم ونظامه القائم، وتعني أن قوس الخضوع الأول قد انفتح بالهتاف القسريّ للزعيم، والتذكير حاصلٌ بالطبع عبر ألف وسيلةٍ ووسيلةٍ، بدءًا من الكتب المدرسية الأولى، والنشيد الوطني، وقنوات الإعلام الرسمي، والشرطي، ورجل الدفاع المدني، والدوائر الحكومية، وفي كل التفاتةٍ في الشوارع والأزقة والميادين.. فكيف، والحال هذه، يتجرأ ابنٌ على "الضلال"، بل ويتهوّر بإعلان كفره وإشراكه بـ"الإله الأوحد" الذي لم يعد يكتفي بأن يكون "ظل الله على الأرض" فقط، بل تجاوزه مطالبًا بالألوهية ذاتها.
ولأن الذنب المسجل في "اللوح المحفوظ" في دوائر المخابرات والاستخبارات والأمن الوطني يرقى إلى درجة الخيانة العظمى، كان لا بد من إعدام "الابن الضال"، ولكن ليس قبل إعادته إلى الحظيرة مرة أخرى، وإغلاق القوس بهتاف: "يعيش الزعيم"، من دون أن يعني ذلك أن الذنب قد غفر، فلا ذنب مغفورًا في عرف الأنظمة العربية إذا مسّ الزعيم، بل المقصود أن يشعر الزعيم بأن "المرتدّين" قد "ندموا"، وهي رسالةٌ مبطّنة لـ"أبنائهم" الآخرين، تكشف لهم مصير كل من يفكر بالتمرّد على قوسي حياته ومماته.
أيضًا، تتفاقم أهمية المشهد السابق في سورية تحديدًا، مع عودة هيمنة النظام على البلد المنكوب، ما يعني أن هذا المشهد سيتكرّر، لكن من دون إعلام أو ضجيج، مع آلافٍ من "أبناء الضلالة"، الذين سيجدون أنفسهم في مواجهة استحقاق "التطهير"، فنحن لم نشاهد في الإعلام الرسمي السوري غير مشاهد مجزوءة لهتافاتٍ من الواضح أنها قسرية، تنطلق من حناجر أهالي القرى المستعادة، لبشار الأسد، أما بقية مشاهد التطهير فلم تعرض، غير أننا على يقينٍ أنها طاولت كثيرين.
ويبقى السؤال المحيّر في المشهد الأول: لماذا استجاب الابن الضال ذاك، لتلقين "الشهادة" من فم جلاوزة النظام: "يعيش بشار الأسد"، خصوصًا وأنه يدرك، بحكم خبرته ومخزون رعبه المهول، أيّ مصير ينتظره، سواء نطق أو لم ينطق بـ"الشهادة" للزعيم؟
هو سؤالٌ لن يعرف إجابته أحد غير "الابن الضال" وحده، غير أني على ثقةٍ أنه ردّد "الشهادة" من دون اكتراث أو تمعّن؛ لأنه كان يتعجّل الانتقال من اللحد إلى المهد، أو كما قال مظفر النواب، إلى قبر "أرحم من هذي الدنيا وسفالتها".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.