لو لم أكن صحافياً لوددت أن أتاجر "بالصنف"

لو لم أكن صحافياً لوددت أن أتاجر "بالصنف"

28 يناير 2015
لم يستجب أحدهم لبكاء وعويل النساء (الأناضول)
+ الخط -

الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2014، يوم حفر في ذاكرتي بكل دقة، حيث تحولت مصر في عيني لـ"بوكس" صغير، وأدركت أن مهنة الصحافة تعجز عن حماية ممتهنيها، لأدفع ثمن امتهاني الصحافة 6 أشهر حبس في سجون الانقلاب وغرامة خمسين ألف جنيه!

لم يكتف النظام الذي يتباهي بحماية الحريات بحبسي؛ بل استخدم كافة الطرق لإذلالي وإهانتي. عليك أن تقدر.. أو لا تقدر أن تخذلك مهنتك، ولم ترد على إساءتك والتنكيل بك بالركل والصعق والضرب. سلسلة من التعذيب النفسي والبدني، لم أجد من الكلمات ما يعبر عن بشاعتها، قبل أن أتحدث عن تفاصيلها، يجب أن أوجه رسالة مطمئنة للمنظومة الأمنية أشدد فيها على أن الوجه الذي لُطم والجسد الذي انهالت عليه أسواطكم لن يركن أو يستكين للظلم قيد أنملة، فالصحافي الذي يغار على مهنته، ولم يرتعش قلمه أمام كلمة حرة.

"التاب، سيب التاب.. بقولك سيب التاب".. بهذة الكلمات صرخت في وجه الضابط الذي ظل يلاحقني لمنعي من تصوير مشاهد السحل والاعتداء الشرطي على المواطنين، وفور انتزاعه مني التف مجموعة من آمناء الشرطة حولي وكأني فريسة اليوم، وقاموا بسحبي من يدي لإدخالي البوكس الأزرق.

لطمني أحدهم علي وجهي بشكل متكرر، ثم انهالت علي مسامعي وبيل من الشتائم، ولم يكن في "البوكس" وقتها غير شاب في أواخر العشرينات من عمره، يدعى أبو بكر، وسرعان ما تم اقتيادنا إلى شرطة قسم الساحل.

كنت أنا وهذا الشاب أول من يفتتح يومهم الحافل بالاعتقالات، جميع الضباط تكالبوا علينا كأضحية، وينظرون إلينا وكأننا أسرى حرب، إلى أن جاء صوت ضابط يدعي "محمد بيه"، هذا المشهد الصامت بقوله "هما دول بقي ولاد "الك..، المــ...، الشــ.."، وغيرها من الألفاظ البذيئة، هنا ثارت غضبتي وتوجهت إليه بالحديث "لو سمحت بلاش شتائم" وهنا ازداد جنونا وظل يردد تلك الألفاظ.

وتابع "تعالي ياختي قوليلي هنا انتي بتشتغلي إيه؟ "أنا: صحافية"، سكت لثوان، وكأنه لم يسمع، ثم سأل: كنت بتصوري إيه؟ لم أجبه. وإذ بصوت يعلو ويكبر أمام القسم "الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد" فتبسم ثغري، وتضجر الضابط وذهب مسرعًا ليرى من صاحب هذا الصوت الجهوري. دخل صاحب التكبيرات وهو يردد بصوت أكثر قوة، يسقط يسقط حكم العسكر، فيضربه رجل الشرطة على وجهه ليصمت، فيرتفع صوته بتلك العبارة إلى أن أدرك أن زوجته في قبضتهم هي الأخرى، ومن يجرها من يدها يهدده بعبارات خادشة للحياء.


"يابيه إنت بتفهم!!"

لم يمر عشر دقائق، إلا ووجدنا امرأه في شهر حملها الأخير، تدعى "دهب"، تحاول بشتى الطرق مناشدة الإنسانية بداخلهم للإفراج عنها، بالبكاء تارة وبالإقناع تارة، لكن دون جدوى: "يابيه.. أنا حامل يا باشا، إزاي بس أشارك في مظاهرات، اسمعني بس أنا كنت ماشية في الشارع ورايحة عند الدكتور". وأخرى عجوز تعدى عمرها 65 عاما، وهي تردد حسبي الله ونعم الوكيل، وأخرى في الخمسين من عمرها، ترتدي بنطلون وتشريت تحاول أن تتحدث إلى أحدهم لإقناعه بأنها لم تخرج للتظاهر.

لم يستجب أحدهم لبكاء وعويل النساء، أو يراعي حالتهن الصحية وانهيارهن النفسي، وهم يعاملون معاملة لا يرضاها أحد منهم لأهل بيته. تم احتجازنا في "طرقة ضيقة" تطل على 5 غرف لمساجين جنائيين، ودخلت علينا امرأة لتفتيش النساء المقبوض عليهن، ثم دخل علينا 3 رجال ليكتمل عددنا، 11 رجل وامرأة.

بقينا في هذه الطرقة جالسين منذ الظهيرة حتى أذان المغرب، وخلال هذه الفترة يتناوب علينا رجال الشرطة لتوبيخنا وإهانتنا بألفاظ يندى لها الجبين، وينظر إلينا من شباك حجز الجنائيين رجال ملوحين لنا بإشارة رابعة، كنوع من التضامن معنا.

وفي نحو الساعه الثامنة مساءً دخل علينا الحبس أحد الضباط، وطالبنا بالصعود إلى الدور الثاني للعرض على رجال الأمن الوطني (أمن الدولة) للتحقيق معنا.

صعدنا إلى الدور الثاني للعرض على الأمن الوطني في تمام الساعة التاسعة مساء، لم يكن منا من تعرض لهذا الموقف من قبل، فجميعنا حديثو الاعتقال، رجال ونساء على سواء، ولكن لا نعرف من أين جاءنا لنا هذا الثبات والجرأة في الحق، وكأننا صقور ثائرة تعرف القوة بالنظر في عيونها، وبمجرد اقترابنا من مكتب التحقيقات أعطى رجال الأمن الوطني أوامرهم للحراس بإدخالنا على أفواج، كل فوج يضم فردين للتحقيق معهما على حدة.

دخلت معي الحاجة نعيمة أحمد سلامة، سيدة في الـ65 من عمرها، وبدأ رجل الأمن يتوجه للمرأة العجوز بمجموعة من الأسئلة المثيرة للاستغراب، ومنها لمن أعطيتِ صوتك في انتخابات الرئاسة مرسي أم شفيق، لو تم إخلاء سبيلك ستصوتين بنعم أم لا، هل شاركتِ في مسيرات من قبل؟! إيه رأيك في الفريق عبد الفتاح السيسي، وأيهما أفضل هو أم مرسي؟!

بقيت أتابع عن كثب، وهو يتعامل وكأننا جواسيس للمخابرات الإسرائيلية، وكأني أرى مشهدا من مسلسل رأفت الهجان.. وظلت السيدة المصرية العجوز ببساطة تعبيراتها تحاول أن توضح له أنها تحب مصر ولم تخرج للتخريب، وتتمنى لو لم يكن لها أولاد، كي لا يتعرضوا لهم، وهم يستفسرون عن كل صغيرة وكبيرة عن شجرة عائلتها.

وجاء الدور عليّ، ولم يستمر معي التحقيق طويلا، فقد لخصت جميع أسئلته في إجابة من جملة واحدة (خرجت لتأدية عملي، ولم أخرج سوى لتغطية الحدث).

بعد انتهاء التحقيق كانت الصدمة بأن تأتي الأوامر، بأن تتم كلبشتنا بسلالم قسم الساحل لعدم وجود زنزانة أو مكان يتم فيه احتجاز النساء.

كانت ليلة مؤلمة، ولم أكن أعلم أن القدر يخفي لي أحداثا أكثر إيلاما، كنت أتصور أن إذلالنا سينتهي عند منعطف أن نصحو نياما، يوم شاق وجسد منهك وعقل لا يتوقف عن التفكير، وعيون رجال تتابعك وكأننا فصيل مهدد بالانقراض؟!

قضينا ليلتنا إلى أن جاءت عربة الترحيلات صباح يوم 15 يناير/كانون الثاني للعرض على نيابة محكمة الجلاء، كانت العربة أشبه بحمام كبير، رائحته قذرة، لا منفذ فيه لهواء ولا مكان لنا فيه للجلوس، فقد كانت العربة تحمل عشرات الجنائيين الرجال للعرض في نفس اليوم، فقرر رجال الشرطة أن يحتجز الرجال بالداخل وأن نقف نحن في المكان الضيق الذي يكفي بالكاد وقوف 4 حراس.

داخل العربة رديئة التهوية، نتنة الرائحة، بدت محاولات رجال الأمن الاستفزازية، بأن يسخروا منا، بطريقتهم المريضة، والتلفظ بعبارات خادشة للحياء، واللغة ليست كاللغة، وأصحاب الأفكار قد يحتملون غباء آخرين، ولكن ما لا يقبلونه أن يستنزفوا أوقاتهم مع عقليات ترى في الدم حلا مناسبا لإنهاء مشاكلهم مع من يخالفونهم.

تمنيت لو أن معي كاميرا لأنقل تفاصيل الصورة كما هي، مشاهد أرهقت شهود عيانها، لقطات كفيلة بهدم نظام يتلاعب بأبنائه وكأنهم أوراق شجر من السهل حرقه بل وتبرير عملية الحرق لصالح خدمة مجتمعه.

هنا من أمام محكمة الجلاء يقف المئات من الأهالي بأجسادهم الثائرة وقلوبهم الغاصبة بصبر يحاول ألا ينفد، يفتشون عن عدالة السماء بعدما أثبت ميزان القضاء فشله في الفصل بين الحق والباطل، فيقتل ويحبس وتنتهك آدمية المجني عليه في حضرة ومباركة نظام يعاني من العوار.

نحيب الأمهات هنا يعلو صوت الرصاص، يتضرعون بالخلاص من أسطورة صنعها غباء آخرين، تسأل الله على استحياء من لتلك الأذرع الأمنية التي تتلون كالحرباء.

التف رجال الأمن المكلفون بحراستنا حولنا وأشهروا أسلحتهم في وجوه الموجودين في ساحة المحكمة في انتظار رؤيتنا كمحاولة منهم لمنعنا من الاحتكاك بهم.

لم يستمر المشهد كثيرا، هي لقطة لثوان تعرف نظاما أبكم لا يحب السماع سوى لمادحه ويتعامل بإجرام مع من ينتقده أو يحاول تسليط الضوء على نقاط ضعفه بصورة صادقة وكلمة لا تحابي.

قاطعني وأنا أتابع قسمات وجوه المنتظرين وأبحث فيهم عن أمي، صوت يصرخ بحدة.. وصّل المتهمين دول جوه لحد ما ييجي ميعاد عرضهم.

العسكري: حاضر يا باشا..

اقتربت إحدى المعتقلات من العسكري متسائلة بعد انتظار دام أكثر من نصف ساعة، "يا سيادة العسكري.. قدامنا قد إيه ونطلع العرض". نظر إليها في حيرة وكأنه يحاول أن يبحث عن إجابة هو نفسه لم يعرفها.. "هااااانت، يعني ساعة أو ساعتين أو تلاتة مش هتزيد عن كده".

وبينما أحاول منع شهوة الصحافي بداخلي من الاستماع لروايات الجنائيات اللاتي يتحدثن عن جرائمهن وكأنهن يروين بطولات يجب أن يكرمهن عليها المجتمع، فإذا بأصوات وضجيج من حولي ورجال الأمن يهرولون لجذب أيدينا التي زينتها الكلابشات وهم يزعمون أن هناك مجموعة تحاول إثارة الشغب وبحوزتها قنابل مسيلة للدموع؟!

أكشن الداخلية يختلف هذه المرة، اصطحبنا رجال الأمن إلى دار حضانة بجوار المحكمة، وطالبوا مديرة الحضانة بإخلاء الدار حرصا على الأطفال، وبالفعل استجابت له، وبعد إخلاء الحضانة سألها بأن يتم احتجازنا بداخلها تخوفا من أن نتعرض لأي إيذاء (قلت له لن نسمح بأن نكون جزءا ثانيا من مسلسل عربة ترحيلات أبو زعبل، ولن ندخل الدار ولو حدث لنا مكروه، أبلغي عنا وسارعت بتعريف اسمي ومهنتي لمديرة الحضانة).

وقتها رفضت المديرة احتجازنا بالداخل، وجذبني رجل الأمن من يدي بعد أن أحكم الكلابشات بغرض إيلامي، وبعد دقائق جاءت الأوامر بالعودة بنا لقسم الساحل وأن وكيل النيابة سيأتي للتحقيق معنا هناك.

بمجرد دخولي العربة انهالت عليّ سيول السباب، حاولت قدر المستطاع أن أتجاهل تلك العبارات الملوثة، واكتفيت بأن أقول له (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).

وصلنا لقسم الساحل، لنجد تشريفة من رجال القسم باستقبالنا في الخارج يتساءلون عن المأمورية؟! فقال أحدهم يا باشا المأمورية فشلت بسبب البت الصحفية دي.. ورفعت عيني لأجد لطمة على وجهي تورم منها فمي، فصرخت في وجهه وأنا أحاول حبس دموعي "فاكراها نخوة إنك تضرب بنت. ترضاها لأختك؟!

هدأت ملامح وجهي بعد أن ترك لي (محمد باشا) رجل شرطة الساحل آثار لطمته على وجهي.

صعدنا إلى الدور الثاني في قسم الساحل لمقابلة وكيل النيابة والذي أصر على إتمام التحقيق معنا، وقبل أن يبدأ وكيل النيابة في إجراءات التحقيق، قال لنا بنبرة هادئة "أنا عاوزكم تقولوا كل حاجة حصلت لكم من غير خوف، أنا هكتب كل كلمة هتقولوها، وأي اعتداءات تمت هذكرها عندي في المحضر)

كان وكيل النيابة يستمع لي بلا تعقيب، وبجواره من يدون أقوالي في محضر التحقيق.

س: ما أقوالك في أنك تابعة لجماعة إرهابية؟

ج: أنفي هذه التهم جميعها فأنا صحافية خرجت لأداء مهنتي ورصد عملية الاستفتاء في لجان شمال القاهرة.

س: ما أقوالك في التهم المنسوبة إليكِ بتخريب المنشآت العامة؟

ج: ما خرجت لتخريب منشآت، وما هي المنشآت التي أتلفت!

س: هل تم الاعتداء عليكِ؟

ج: نعم ... وتمت إهانتي وضربي وتهديدي.

وكيل النيابة: امضِ هنا يا سماح.. انتي مش قلتي كلمة حق، متخافيش.

في هذه اللحظة دخل أحد رجال الأمن لإخبارنا بأن محامي الدفاع ينتظر في الخارج، فأعطى وكيل النيابة أوامره بالدخول للاطلاع على المحضر.

ومرة أخرى يعاود كلبشتنا ببئر السلم منتظرين قرار النيابة، ويبدو أن رجال الشرطة أشفقوا علينا من طول الانتظار فتقدم أحدهم باتجاهنا قائلًا "متقلقوش انتو مشرفنا.. المحضر في الدرج.. ده قرار من فوق"، وعلمنا بعدها من المحامين بقرار التمديد 15 يوما على ذمة التحقيق.

لم ينتهِ اليوم عند هذا الحد من التوبيخ الأمني، فإذا بصوت مشحون بالغضب ينضح به فيه، يستعرض بجسده المفخخ بالأسلحة وصوته الأجش في إرهاب الآخرين.. هي فين دي!! أصلها "تيت بنت تيت (كلمات قبيحة)، كلهم أصلا ولاد تيييت، وعاوزين "تيييت" وظل يقترب منا مستمرًا في (وصلة الردح الأمني) فاستدرت بوجهي متجاهلة تلك الكلمات ببرود الصحافي الذي لا يهتم كثيرًا بنباح الآخرين.

في اليوم التالي تم ترحلينا إلى قسم الأميرية، لقضاء مدة التمديد، استقبلنا رجال شرطة الأميرية بحفاوة بالغة منذ أول يوم؛ فهم يعلمون جيدا أن إهانة المرأة وكسرها يكون بالنيل من جسدها!

وكانت أولى الإهانات الجسدية، بأن تقوم إحدى المسجونات تدعى أمل، بتفتيشنا ذاتيا أمام أحد الضباط، ولم يخرج حتى تنتهي من أداء مهمتها.


"ملحق الإخوان"

شهدت جدران سجن الأميرية أياما من عمري، تمنيت أن تطمس من الذاكرة، فهناك انهالوا عليَّ ضربا بالسوط، وتم ركلي مرات عديدة، وصعقت بالكهرباء كثيرا، وكلما تعالى هتافي بسقوط النظام جن جنونهم..

وبمجرد إعلاني الإضراب عن الطعام، تعرضت لحزمة من التهديدات.. غير مسموح لي الاختلاء بأهلي لدقائق.. كان إيماني بأن قهر البشر إلى زوال، هو ما يخفف عني وطأة ما ألقاه.


الحكم

نطقت محكمة جنح الساحل حكمها الصادم عليّ فى يوم السابع عشر من مارس/آذار بحبسي سنة من الشغل والنفاذ، ثم تقدم المحامون باستئناف؛ وجاء الاستئناف أعنف؛ إذ تم تغريمي 50 ألف جنيه، وتخفيف المدة إلى ستة أشهر، بالرغم من تقدم محامي نقابة الصحافيين إبراهيم زين العابدين بمذكرة تفيد بأني كنت أمارس عملي، وأن تداول المعلومات من مهام الصحافي، وأن القانون يحمي مهنة الصحافة ويدافع عن ممتهنيها. إلا أن القضاء الشامخ ضرب بمذكرة دفاعه عرض الحائط، وصدق من قال لي يوما: إنتي فاكرة إن مهنتك هتحميكي؟!

رحم الله والدي.. كان يتوق لليوم الذي يراني فيه بالزي الأبيض.. وها قد تحول حلمه الوردي لكابوس يفزع أمي ومن حولها، فالأبيض ردائي يا أبي في سجن القناطر، وأصبحت في أعين المجتمع متهمة، فلتأذن لي أن أنعيك في وطن أحببته لدرجة الجنون، وتشهد روحك معي وأنا على أعتاب سجني مراسم جنازته بعد أن دهست كرامتي بالنعال! أحمد الله أنه توفى قبل أن يشهد هذه اللحظة، كي لا يعتصر قلبه الثائر حزناً على ما آلت إليه الأوضاع في مصرنا.


السجن

بمجرد دخولنا حرم السجن، كنا حينئذ 6 فتيات، تم تسليمنا إلى سجانة تدعى "كوثر" بهدف التفتيش.. قالت بصوت مسموع للجميع: "تعالوا هنا ورا القفص عشان تتفتشوا" وقفت شاردة لثوان، فقاطعني صوتها وهي تكرر:"متيجوا ورايا ياللا".. أعطتني ملابس بيضاء، وأشارت إلى دورة المياه، وتابعت "البسي الشول ده، ولما تخرجي هاتي هدومك دي عشان هتروح الأمانات".

توجهت بخطوات متباطئة إلى الحمام، ومعي "الشول" بقيت أتفحصه وأتساءل في صمت عن كيفية ارتدائه.. والشول لمن لا يعرفه اختصار لكلمة "شوال" قماش واسع فضفاض، لا تعرف لمن يرتديه هيئة، ومختوم عليه بختم الداخلية "نزيل".

استقبلنا "تامر بيه"، رئيس مباحث سجن القناطر، في مكتبه في مقابلة سريعة لم تتعدَّ الدقائق، ثم أعطى أوامره بفصلنا عن عنبر السياسيين أو كما يطلقون عليه العنبر العسكري، والذي يضم قرابة 30 فتاة من طلبة الجامعات، أما نحن فقد وقع الاختيار بأن نلتحق بعنبر (التحقيقات)، فيه تاجرات الحشيش والآداب ومتهمات بقضايا قتل بصدد انتظار صدور الأحكام.


عنبر التحقيقات

داخل عنبر التحقيقات والذي يسع قرابة الثلاثين سريرا حجرة "ملحق الأخوان" وهي حجرة مربعة ضيقة تحوي 4 أسرة من 3 أدوار، وسخانا بدائيا من الطوب، مروحة سقف، شباكا يطل على عنبر الآداب ممن حكم عليهن.

وفور دخولنا العنبر هبت المعتقلات في ملحق الإخوان لاستقبالنا بالأغاني الثورية، منها: "كانت دايما جدعة.. حرة وثورية، تهتف بكرامة عدل وحرية.. ع العزة خلاص البنت اتربت، وتساوي بدل الراجل مية.. ياجيش شمال.. يا بتاع نوال.. من دم حبيبة.. هنربى أجيال".

يعلو صوتهم أكثر عند مقطع الأغنية التي تقول كلماتها: "اقتل واسجن في البنات. مش هاممنا الاعتقالات الانقلاب مش للحرائر.. إحنا إخوات هالة وسمية.. راسي مرفوعة وكلي عزة.. بهتف وبقول إن أنا حرة حرة ..حرة ...حرة".

وبدأت كل واحدة منهن تعرّف نفسها إلى الأخرى، لم أشاركهن الحديث، وتوجهت بلا كلمة واحدة سوى بابتسامة باردة متعبة إلى سرير لم أسأل عن صاحبته وارتميت ولم أستيقظ إلا على صوت افزعني "يا سجانة.. يا سجانة.. وووو.. يا سجانة يا سجانة" لأجد الجنائيات ينادين باستغاثة غنائية للسجانات لفتح بابهن المغلق وإبلاغ إدارة السجن بأن هناك مسجونة تعاني من مرض، ويريدون نقلها إلى المستشفى.

رفعت غطائي وذهبت لصلاة العشاء، وقضيت ليلتي وأنا أنظر إلى السماء في انتظار غد يجذب همومنا كما يجذب المغناطيس برادة الحديد.


*مصر

المساهمون