لماذا كل هذا التطبيع؟

لماذا كل هذا التطبيع؟

11 نوفمبر 2018
+ الخط -
تطبيع العلاقات بين بلدين يعني جعلها طبيعية وعادية. وفي المجال السياسي، تشير الكلمة إلى قرار إعادة العلاقات بين دولة ودولة أخرى بعد فترة من قطعها. يُفهم من هذا الكلام أنه كان قبل تلك اللحظة وضع آخر نقيض الوضع الذي يسمح بعلاقات طبيعية وعادية، وأن ذلك الوضع كان حربًا، قائمة أو باردة، أو عداءً أو قطيعة أو صراعًا أو نزاعًا، أو غير ذلك مما يستوجب القطيعة، وأن مفاوضاتٍ جرت، أو حربًا انتهت، وأدت إلى أمر واقع مغاير، وأفضت إلى انعدام الأسباب الموجبة للقطيعة. فهل يقدّم وضع منطقتنا العربية ما يكفي من الأسباب المؤهلة لإجراء تطبيع مع إسرائيل في الوقت الراهن؟
تعيد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أخيرا مسقط إلى الواجهة دور عُمان عن طريق دبلوماسيتها الهادئة في لعب الوساطة في قضايا ومشكلاتٍ عديدة إقليميًا، فليس غائبًا عن البال الدور الذي لعبته في الملف النووي الإيراني بين إيران والدول الكبرى. وإذا كانت بعض التصريحات تضع زيارة نتنياهو في إطار محاولة لكسر الجمود الإقليمي، فإن لهذا الجمود مبرّراته، بل من المجحف أن يُسمّى جمودًا. هو أكثر من ذلك، إنه وضع الحروب التي تطحن منطقة الشرق الأوسط لتعيد تدوير أنظمتها ودولها بطريقة جديدة تخدم مشاريع إقليمية ودولية، فهل الحروب التي ما إن تخمد نارها في منطقة حتى تُضرم في أخرى تمكن تسميتها جمودًا؟ وهل فعلاً هذه الزيارة مرتبطة بعملية السلام في الشرق الأوسط، العملية التي يُقال إن لدى أميركا خطة لها سوف تطرحها بعد انتخاباتها النصفية الراهنة؟

في تاريخ الولايات المتحدة حالات تطبيع عديدة، فقبل محاولاتها مع كوريا الشمالية الحالية كان هناك تطبيعها مع الصين. ومع فيتنام التي كان الراحل جون ماكين، الذي أسقطت النيران الفيتنامية طائرته في أثناء مهمة قتالية فوق هانوي في عام 1967، وقضى أعواما أسير حرب في سجن هوالو، كان من أبرز المدافعين في واشنطن عن تطبيع العلاقات مع فيتنام الشيوعية، عدوة بلاده في الحرب، وهو من قاد مساعي تضميد جراح الحرب على فيتنام، فبعد عقود من الحرب الأهلية بين الفيتنامين الشمالية والجنوبية، وبعد غرق الولايات المتحدة في المستنقع الفيتنامي، وخسارتها نحو ستين ألف جندي، تجاوز البلدان ماضي الحرب، وتم التطبيع في العام 1995. ولا يمكن إغفال انهيار الاتحاد السوفييتي الداعم بعض الأنظمة في العالم، ومنها النظام في فيتنام الشمالية، في تسهيل إنجاز هذه الحالة البديلة.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه يرى طريقًا إلى السلام مع الفلسطينيين، من خلال تطبيع العلاقات مع دول عربية، اعتبر أنها تواجه، كإسرائيل، تزايدًا للنفوذ الإيراني. وأضاف إن "دولا عربية عديدة لا ترى في إسرائيل الآن عدوًا لها، بل حليفا لا يمكن الاستغناء عنه في التصدّي للعدوان الإيراني".
وكان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد صرح، لمجلة أتلانتكيك الأميركية، أن بلاده تتقاسم المصالح مع إسرائيل، وفي حال التوصل إلى سلام في المنطقة، ستكون هناك "مصالح كثيرة بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي". فعن أي سلام يتكلمون، والسياسة الأميركية سافرة وواضحة تمامًا، بإدارة ترامب الذي ينهج سياسة ضد الشعب الفلسطيني، وباشر تنفيذ ما سميت "صفقة القرن"، والذي لا يبالي بسياسة إسرائيل الاستيطانية ومحاولاتها تهويد الأراضي الفلسطينية ومحو الذاكرة الفلسطينية.
هل يمكن تجاهل ما يجري في المنطقة العربية، وإجراء معاهدات واتفاقيات وتطبيع، من دون طرح حلول للزلازل التي تعصف فيها؟ كيف يمكن ذلك والشعب اليمني يموت جوعًا، وأطفاله يستهلكون أعمارهم في سنيّهم الأولى، وسورية بازار للمساومات والبازارات الرخيصة على أرضها وشعبها؟ كيف لسلامٍ يمكن أن يتحقق والعراق بين حجري الرحى، أميركا وإيران؟ كيف ومصر مهدّدة بلقمتها وأمنها، فيما لو حلمت باسترجاع دورها التاريخي، في أحلامها فقط؟ هل إيران هي العدو الوحيد؟ أعداء هذه الشعوب كثر، وأولهم أنظمتها، وإيران من الأطراف الساعية إلى تمكين موطئ قدم لها في المنطقة، لكنها ليست الوحيدة، فالمنطقة المشتعلة محاطة بأنظمة ودول عديدة، صاحبة مشاريع مستقبلية، ولها حلفاؤها. والوحيد الذي لا حليف ولا نصير له هو شعوب المنطقة.
إيران صاحبة مشروع، ولها استراتيجيتها، وتسعى إلى إنجاز خططها. سأل نائب القائد العام لحرس الثورة الإسلامية، العميد حسين سلامي: هل تمكنت أميركا من منع تأثير الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقوتها المعنوية في المنطقة أو الحد منها؟ وهل تمكنت أميركا من تغيير سلوكنا السياسي، من خلال الحظر الاقتصادي الواسع؟ وهل تمكّنت من إقناعنا بالجلوس معها الى طاولة المفاوضات مرة أخرى؟ وهل تمكّنت من تشكيل تحالف عالمي ضد إيران؟. الجواب على ذلك كله واضح، ولا بد من القول إنه على الرغم من تخرّصات ترامب وإدارته، فإن أيا من التهديدات لم يتم تنفيذها عمليا، حيث فشلت أميركا في تحقيق مآربها. الحرب بين إيران
ومشروعها الاستراتيجي من جهة وبين الولايات المتحدة وحلفائها لن تنتهي قريبا، وستبقى زلازلها تعصف بمنطقتنا، ومصير المنطقة مرتهنٌ لتلك السياسات والنزاعات.
في المقابل، لا يمكن وصف عملية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في اسطنبول، بالحماقة أو الغباء، بقدر ما هي فجورٌ يفوق الوصف، دفعت أطرافا عديدة في المنطقة إلى استغلالها وتسييسها من أجل خوض البازارات السياسية، بينما الدول العربية غارقة في مشكلاتها الداخلية، ومصابةٌ بلعنة الأنظمة، إما المتهالكة التي صارت على كرسي بعجلات، أو التي آلت بالتوريث إلى جيل من الشباب، رؤساء أو ولاة عهد، استبشرت بهم الشعوب خيرًا، فكانت الطامة الكبرى والخيبة الأكبر.
لم تعد جامعة الدول العربية منظمةً، يمكن أن يكون لها ثقل واعتبار، ولم تعد صاحبة رأي وموقف. لقد طرحت مكانها بدائل عديدة لتستلم مصير المنطقة، ليس فقط مجلس تعاون خليجي والدول الملحقة به لتشكل التحالف، بل ربما سيكون هناك تحالف إيراني، وآخر تركي، في محاولةٍ بديلةٍ وطامحةٍ لدفع المنطقة إلى المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد الحروب التي من الطبيعي أنها ستنتهي إلى تقسيماتٍ سياسيةٍ جديدة، وستتشكل أوطان ودول بمسميات أخرى، وستكون مصالح الدول الكبرى أسواقًا لها ولاستثماراتها، بعدما كانت قد استثمرت في تجارة السلاح والحروب.
بعد هذا كله، هل يمكن القول إن التطبيع قد جاء في لحظته التاريخية بالنسبة لدعاته. وهل مستقبل المنطقة، بشرقها المتوسط الجديد، سيكون مزهرًا ومشرقًا تزينه حمامة السلام الإسرائيلية، بدولتها العنصرية، بعد أن تقضي على كل احتمالات الحلول التي يمكن أن تضمن للشعب الفلسطيني قليلاً من حقوقه التي أوشكت على أن تصبح منسية بالنسبة للعالم؟