رفح حاضنة القهر والوجع بوابة فلسطين إلى الحقّ

رفح حاضنة القهر والوجع بوابة فلسطين إلى الحقّ والعدالة

14 فبراير 2024
+ الخط -

لا تزيد مساحة رفح عن 64 كيلومتراً مربّعاً، ينبض فوق ترابها مليون وأربعمئة قلب مقهور، ومثلها روح لا يملك حق تقرير حصّتها من الحياة سوى خالقها، هذا ما تقوله الشرعة الدولية وناموس الكون، لكن إسرائيل تعمل على امتلاكها متحدّيةً ضمير العالم والناموس. رفح اليوم هي الأولى في الكثافة السكانية فوق وجه الأرض، ما يفوق العشرين ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد فوق أرضها، معظمهم في الخيام، بلا ماء صالح للشرب، بلا كهرباء، بلا وقود، بلا غذاء، بلا مدارس، بلا مستشفيات إلّا ما سلم منها، بعد أن كانت هدفاً لوحشية إسرائيل منذ الأيام الأولى لحربها على غزّة. رفح هي الأولى في حصّتها من الموت، لكنها الأولى أيضاً في معنى الكرامة الإنسانية، مثلها مثل كل قطاع غزّة، والأولى في معنى التكافل الإنساني، فهي تقدّم كل لحظة برهاناً على هذا التكافل على الرغم من فداحة واقعها.

ينشغل العالم اليوم بسؤال مصير رفح: هل تجتاحها إسرائيل؟ وتخرج التصريحات من هنا وهناك، تطالب إسرائيل بهدنة طويلة لأجل وصول المساعدات الإنسانية فحسب، على أهمية هذا الأمر بالنسبة لشعبٍ يباد، ليس بالقصف والنيران فحسب، إنما بكل وسائل القتل المتاحة، قتل بطيء وقتل آني. لكننا لا نسمع من الحكومات المؤثرة صوتأً يطالب بوقف دائم لإطلاق النار. حثّ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي على العمل من أجل هدنة في غزّة تسمح بإطلاق سراح مزيد من الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس وتعزيز تدفق المساعدات الإنسانية سريعاً إلى المدنيين الفلسطينيين، وقال إن أزمة غزّة لن تنتهي إلا إذا أطلقت "حماس" سراح جميع الرهائن. وماذا لدى الإدارة الأميركية قبل الحرب على غزّة وبعدها؟ هل ستنتهي القضية الفلسطينية إلى حل، أقلّه وفقاً للقوانين الدولية التي تعترف بدولة فلسطينية على مساحة لا تتجاوز 20% من مساحة فلسطين التاريخية، تُقضم باستمرار على مدى السنوات ببناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين، وزيادة الحصار على المناطق المحسوبة لهم؟ ماذا فعلت الإدارة الأميركية منذ بدء الحرب على غزّة، وماذا قدمت من مواقف فعلية تكبح جموح إسرائيل وفجورها؟ منذ اليوم الأول من الحرب تقول إن دعمها إسرائيل في الدفاع عن نفسها لا يمكن التفاوض عليه.

كل قذيفة تنزل من السماء فوق هذه الكثافة السكانية في رفح ستحصد الآلاف، بدلاً من العشرات أو المئات في باقي أنحاء القطاع منذ بدء الحرب

قال المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، يوم 12 فبراير/ شباط الحالي، عبر منصة إكس، إنه يشعر "بقلق عميق من تقارير عن قصف وتوغل بري محتمل للقوات الإسرائيلية في رفح"، وأضاف أن المحكمة "منهمكة في التحقيق في أي جرائم يُزعم ارتكابها" في قطاع غزّة، وأن "من ينتهكون القانون سيُحاسبون". هل تمت محاسبة إسرائيل يوماً وهي ماضية في غيّها وبغيها منذ إعلانها دولة محتلّة؟

لو أراد المجتمع الدولي حلّاً عادلاً لقضية الشعب الفلسطيني لسعى إليه، لكن، وعلى الرغم من الحرب الحالية المكشوفة والمفضوحة أمام العالم مجتمعاً، والتي حرّكت صور قتل الأطفال والمدنيين وتدمير البيوت والمشافي والمدارس وتهجير السكان فيها ضمير الشعوب، فإن الأنظمة والحكومات في الدول الداعمة لإسرائيل لم تقم بخطوة فعلية لوقف هذه الكارثة الإنسانية التي يندى لها الضمير. لقد تهافت زعماء هذا العالم إلى تأييد إسرائيل منذ اليوم الأول، ومنهم من قدّم أوراق اعتماده إسرائيليّاً وليس يهودياً فحسب. واليوم يصدّع الرؤوس خطاب لا يعدو أن يكون أفضل من قنبلة صوتية في المحافل الدولية أو المؤتمرات الصحافية أو تغريدات وتصريحات على منصات التواصل للاستهلاك أمام الرأي العام، تبلغ أقصى ذراها بأن تطالب إسرائيل بهدنة إنسانية، وإسرائيل تصرّ على الحرب، حتى لو طال أمدها الذي قد يصل إلى عام أو أكثر بحسب تصريحات نتنياهو، والهدف المعلن: تحرير الرهائن والقضاء على حركة حماس والفصائل، وهي بهذه الشراسة والعنجهية تزرع لمستقبل متخم بالكراهية، فكيف لفلسطيني أن ينسى طفولة مترعة بالقهر إلى هذا الحدّ؟ كيف لجيل جاء إلى الدنيا فلم يعرف منها غير جهنم تنهمر عليه وابلاً من السماء وتنبع من الأرض، فلا يعرف أمّاً ولا أباً ولا إخوة، لا مدرسة ولا طعاماً ولا لعباً ولا دواء، ولا بيتاً ولا أسرة؟ لا يعرف غير الموت والفقدان.

إسرائيل ماضية في حربها، وإذا لم تجتح رفح بريّاً، سيكون لديها من البدائل ما يخدم مشروعها "تهجير الفلسطينيين من غزّة" وربما قد تفرضه أمراً واقعاً

إسرائيل ماضية في حربها، وإذا لم تجتح رفح بريّاً، سيكون لديها من البدائل ما يخدم مشروعها "تهجير الفلسطينيين من غزّة" وربما قد تفرضه أمراً واقعاً، حتى لو صرّح مسؤولوها بأنها ملتزمة بمعاهدة السلام مع مصر، ما أسهل أن ينزل صاروخ أو أكثر فوق المعابر يرافقه جهنّم من السماء، الخطأ وارد في الحروب، ألم تنزل قذيفتان على سوتشي بالخطأ في الحرب العالمية الثانية، بعد أن كان هتلر قد أوصى بتجنّب قصفها لأنه ينوي اتخاذها منتجعاً له، وقد كان واثقاً من انتصاره فهزمته الحرب وهزمه التاريخ؟ كل قذيفة تنزل من السماء فوق هذه الكثافة السكانية ستحصد الآلاف، بدلاً من العشرات أو المئات في باقي أنحاء القطاع منذ بدء الحرب، وهي إن كانت تردّد أنها ستوفر ممرّات آمنة للمدنيين، انسجاماً مع تصريحات نتنياهو بأنهم يخوضون حرباً "إنسانية"، فلن تكون باتجاه وسط وشمال القطاع، فهي تمنع حتى المساعدات الإنسانية من الوصول إلى من تبقوا فيها، بل ستحاصرهم حتى لا يكون أمامهم خيار سوى منفذ أُحدث بالخطأ، كما يمكن أن تدّعي إسرائيل، وتتركهم يفرّون من الموت باتجاه سيناء، لمَ لا يكون هذا السيناريو الماكر، بقدر تفاهته، يخطر في بال إسرائيل التي لا تدير أذناً لكل التصريحات الدولية، فهي تعرف حقّ المعرفة أن جميع القوى الغربية معها، وأهمها أميركا، أميركا المقبلة على انتخابات، لن يحدث الفائز برئاستها أي فارق بالنسبة لدعمها إسرائيل، لا يختلف جو بايدن، الذي يبدو بتصريحاته وادّعاء الجفاء بينه وبين نتنياهو مثل أب يطبطب على كتف ابنه "المشاغب" كي يخفّف من جموحه، بينما يبتسم في صدره تحبّباً وإعجاباً، لا يختلف عن ترامب سوى بأن ترامب غاوي أن يكون "ترند" وواضح حدّ السفه، يرى العالم مجتمعاً والحياة كلها من منظور تاجر، المال بالنسبة إليه هو اللغة الكونية، وعليه، يهدّد، قبل أن يصل إلى الرئاسة، أعضاء حلف الناتو بأن يشجّع روسيا في الحرب عليهم إذا لم يدفعوا، والمقصود غالباً هي ألمانيا بالدرجة الأولى. هذه هو ترامب، وهذا هو بايدن، والاثنان لو أرادا الانحياز إلى الضمير العالمي والشرعة الدولية وقضية العدالة الإنسانية، لقاما بخطوات فعلية، ولتبعهما الغرب أيضاً، خطوة يمكن بواسطتها الضغط على إسرائيل وكبح جموحها الأرعن الوحشي.

العالم منشغلٌ، ويقف قلبه على كفّه، باحتمال اجتياح رفح، بينما يقتل الفلسطينيون كل دقيقة، وتقتل القضية الفلسطينية، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل بكل ما تملك من أدوات شريرة. تهدف إسرائيل إلى محو الوجود الفلسطيني، وأخمّن أن العالم كله يعرف هذه الحقيقة، ومع هذا للفلسطينيين قضيتهم، وثمن أرضهم يقدّر بالأرواح وليس بدولارات الأنظمة.