في تنسيب ما قبل كورونا وما بعدها عربياً

في تنسيب ما قبل كورونا وما بعدها عربياً

26 ابريل 2020
+ الخط -
الأرجح أن يكون لكورونا ما بعدها. يردّد هذا القول مفكرون وأصحاب قرار عديدون ممن يستحوذون على رسم مصائر الأمصار، ولكنه قول يحتاج تدقيقا، وقد لاذ بالبداهة، حتى يُدافع على صلابته، فبعض الأفكار تنزع إلى الارتقاء إلى مرتبة الحقائق، ما أن يُعاد تداولها بشكل مكثف. هذا هو حال "ما قبل كورونا وما بعدها"، يهرع الجميع إلى استعمالها، مثل حقائب السفر، لنحشو فيها أشياء مختلفة متعدّدة وفارغة أحيانا. يكفي أن تضع تلك المفردة في سياق جملةٍ ما، أو فكرة ما حتى ولو كانت سطحية، حتى ترتقي وهما إلى مرتبة الأطروحة.
يقتضي الأمر، حتى نسلم بما بعد كورونا، أن نحدّد ما قبلها، أي سمات عالمنا وملامحه، قبل أشهر قليلة من إعلام الصين عن الوباء وبداية تفشّيه في أصقاع عديدة منه. وعلى افتراض أننا وقفنا على تلك السمات على غرار: الحداثة المزهوّة، والرأسمالية "المتوحشة"، والعولمة المنتصرة .. وتذرّر العلاقات البشرية، وميلها إلى الفردانية، في ظل دولة وطنية كانت أميل إلى البحث عن تجمعات إقليمية أوسع منها، تجد نفسها مجبرةً على أن تفتح في اليوم نفسه مئات المنافذ والأبواب على سيل جارف من المعلومات والسلع والأفكار، فالاعتقاد لدي أن ذلك لن يتغير بشكل جوهري ما بعد كورونا. وينسب مفكرون عديدون من هذه الأطروحة التي تتوقع قطيعة جذرية تغير تماما قسمات العالم، فأقصى ما يستشرفونه تعديلات مهمة تظل معها تلك الملامح حاضرة، خصوصا في المدى المتوسط ... سيظل شيئا ما بنيويا صلبا يتحكم في الملامح، ولا يتزحزح إلا قليلا. يعود هؤلاء إلى تاريخ الأوبئة لإثبات أنها لم تغير جذريا "أزمنة وقوعها"، وأن لها دورين: أول يسرّع التطورات وثان يضاعف الآثار.
ربما ستطرح النخب أسئلة وجودية كبيرة كعلاقة البشر باللايقين والموت والنهائيات التي بدت أقرب إلينا من حبل الوريد ومنزلة الجسد في علاقتنا بالآخرين. ولكن أسئلة ستظل تطرح في 
حاضنة هذا العالم بجل قسماته التي سعينا إلى تحديدها. يذكر عالم الاجتماع الفرنسي المرموق، ميشال مافيزولي، إن عالم ما بعد كورونا سيكون ملائما لظهور نزعات انتفاضية، حتى في أكثر الدول الديمقراطية، لأنه تبين أن الديمقراطية لا تقترن بالعدالة، وأن مئات الحركات الاجتماعية ستجد الحجج والمناخات المواتية للانتفاض من أجل عالمٍ أكثر عدالةً يخفف من التفاوت. ولكن لن تُمحى الرأسمالية أو الليبرالية لفائدة بدائل أخرى، ذات منزع شمولي. هذا في عالم غير عالمنا العربي.. ربما يختلف بعضهم معه في التفاصيل، ولكن هذه الأطروحة الكبرى تظل قائمة: تغييرات داخل ذات النسق بملامحه التي استوت منذ أكثر من قرن، وازدادت وضوحا بعد اختفاء ما كان يشاغبها، على غرار الشيوعية مثلا... لسنا بصدد استعادة أطروحات فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، ولكن الوباء لن يستدعي تاريخا آخر، مغايرا تماما ومختلفا عما عرفناه.
تبدو أسئلة عديدة مثل هذه كأنها ليست أسئلة مجتمعاتنا، أو على الأقل لن تكون الإجابة عنها/ الاستجابة لها متطابقة مع تلك "المجتمعات الغربية"، على الرغم من أن العولمة حشرتنا معها وشبكتنا مع أنسجتها بأشكالٍ مختلفة. ثمّة تحولات هادرة وقعت من حولنا، من دون أن تكون حوّلتنا، نحن العرب، جذريا. مرّت موجات الأنوار والتصنيع والديمقراطية والحروب، وظلت منطقتنا خارج تلك التحولات الجذرية، ما دفع بعضهم إلى القول بالاستثناء أو الاستعصاء .. إلخ. لا أحد ينكر أن أشياء ما تغيرت، ولكن البنى عموما ظلّت كما هي، ما عدا بعض التعبيرات التي لم تغص في الأعماق. يقلل بعضهم منها، فيتحدّث عن مساحيق وعمليات تجميل، لم تفلح في تجديد ملامح "عالمنا العربي"... إنه عالم بأسره لا يعيش ضرورة أسئلة العالم ونسقه وزمنه.
لا يعني هذا أننا نحيا في جزيرة معزولة، ولكن يبدو أن حواسنا بطيئة متكلسة، تشبه جلدة التمساح التي تمنعه من التقاط الذبذبات واللمسات والاستجابة لها بالشكل المطلوب ... ثمّة طبقة سميكة 
تمتص الصدمات العنيفة، وتحوّلها إلى مجرّد كدمات بسيطة، سرعان ما تتعافى، أو هكذا نتوهم. سيظل زمن عالمنا العربي في استمراره التاريخي، ولن يستجيب إلى ما بعد كورونا إلا بشكل بطيء، خصوصا إذا ما أخذنا بالاعتبار جملةً من المعطيات التي حجزته خارج كل هذه الديناميات الهادرة: أنظمة سياسية صلبة تكسّرت على رخامها ثورات وحركات احتجاجية عنيفة، مجتمعات تنزع إلى الانطواء على بنى تقليدية أفلحت في التجدد والمواءمة، حركات اجتماعية معزولة عن نخب بدورها فقدت المبادرة... عالمنا العربي لن يكون ما بعد كوروناه يشبه تماما ما بعد كورونا مجتمعات أخرى، نهلت من الحداثة، وعاشت الديمقراطية، وسمحت لأشكال الفردانية، حتى الأكثر غرابة بالتجريب.
علينا ألا ننسى أن عالمنا العربي هفا، منذ عقد، إلى تغيرات جذرية، حين احترق شاب بسيط في أحد الأرياف المنسية. ثمّة أشياء قابلة أن تحرّكنا بعنف، على الرغم من ترسانة الحصار. وهي في الأصل خفقات عابرة. الكرامة والتوق إلى وضع حد لأشكال الإذلال والمشاركة في تحديد مصير الأوطان أقدر على اختراق جلد التمساح السميك الذي يلفنا.. مناعة جسمنا التاريخي تحول دون أن تكون للأوبئة آثار عظمى علينا. قد يمرّ كورونا من دون أن يكون لديه عندنا ما بعده وحتى ما قبله. .. التحقيب هو فعل الوعي وليس أثر الأحداث.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.