ضبط وإحضار عبد ربه التائه!

ضبط وإحضار عبد ربه التائه!

11 ديسمبر 2019
+ الخط -

في ديسمبر 2005، وبعد أسبوعين من الاحتفالات التي عمت الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية بعيد ميلاد الكاتب العظيم نجيب محفوظ، كتبت هذا المقال الذي نُشِر في العمود الأسبوعي الذي كنت أكتبه وقتها في صحيفة (المصري اليوم)، ولم أستمر في كتابته طويلاً، لأن سقف النشر في الصحيفة كان أكثر انخفاضاً مما كنت أرجو، ومما كنت أكتب بالفعل في صحيفة (الدستور)، وهو ما تغير كثيراً حين عدت للكتابة فيها بشكل يومي منذ أواخر عام 2008.

أثار هذا المقال جدلاً كبيراً وقت نشره خاصة أن الأستاذ نجيب كان لا يزال حياً وقتها، وأغضب مني بعض أصدقاء الأستاذ، خصوصاً أولئك الذين كانوا يفرضون أنفسهم عليه، ويعتبرون صداقته بمثابة سلطة معنوية تمنحهم ما لا يستحقونه، لكن المقال أسعد أصدقاء آخرين له، كانوا هم الأقرب والأحب إليه، وكانوا يعتبرون صداقته منحة يجب التعامل معها بجدية واحترام لخصوصيته، للأسف لم أعد أذكر تاريخ نشر المقال بالتحديد لكنه نُشر بعد يوم 22 ديسمبر 2005 بيوم أو يومين، وبنفس العنوان الذي تقرأه هنا، ولأن المقال غير متاح على الإنترنت، أضعه بين يديك، لترى هل لا زال صالحاً للنشر أم لا:

"تقدر تقول لي بذمتك، وأنا راضي ذمتك"، إلى أي مدى جعلتك هوجة الإحتفال بالروائي الأعظم نجيب محفوظ والتي عمت أرجاء البلاد طيلة الأسبوعين الماضيين أقرب إلى أدب نجيب محفوظ؟ كم عملاً من أعماله دفعتك هذه الإحتفالات لكي تقرأه أو تعيد قراءته؟ وهل نحن حقاً نستحق نجيب محفوظ أم أننا فقط صحونا فوجدناه، ككل شيئ ثمين وغال وعظيم في مصر؟


ألست معي في أننا بدأنا ـ وهي عادتنا ولن نشتريها ـ في تحويل عيد ميلاد الرجل العظيم إلى مولد كسائر الموالد التي نقيمها لعظمائنا، يأكل فيها مئات الموالدجية أكل عيش ببركة صاحب المولد، ويتحول الرجل إلى مزار يزوره من قرأ له ومن لم يقرأ، بل إن بعض من يزورونه، مجرد وجودهم في الحياة أكبر ضربة لمشروع نجيب محفوظ الأدبي والإنساني، وأتحدى لو كان بعضهم قد قرأ له شيئاً غير تيترات الأفلام المأخوذة عن رواياته.

لكن من يسأل أسئلة كهذه في المولد، كل سنة وأنت طيب، وحلال على المستفيد الأكبر ألا وهو محلات التورتة المحيطة بأماكن تواجد محفوظ حيث الكل يتنافس على شراء التورتة الأكبر حجماً والتربيط مع أحد القريبين من الأستاذ، أو الحصول على واسطة تؤمن الوصول بصحبة التورتة إلى الأستاذ، من المهم أن تختار السكة الأسلم والأضمن، وعندما تصل إلى الأستاذ هاتك يا صِوَر، ويابختك لو تمكنت من الإقتراب من أذن الأستاذ وأنت تقول له كلاماً، على القراء أن يجتهدوا لقراءته حين يُنشر في مواضيع يتحدث الأستاذ فيها كلمات لا تعد على يد أصابع اليد الواحدة، وهو ينظر إلى حوله من الملتصقين والمبتسمين نظرات الشيخ عبد ربه التائه الساخرة الثاقبة وهو يقول في أصدائه: "حاولت العزلة يوما ما لكن تنهدات البشر اقتحمت خلوتي"، أما أنت فلو تفرست في وجوه الحاضرين في الصور، لوجدتهم كما قال عبد ربه التائه تماماً: "أناس شغلتهم الحياة وآخرون شغلتهم الموت، أما أنا فقد استقر موضعي في الوسط".

هذا العام شهد المولد بعداً جديداً عندما نجح صديقنا أبو الحداقة والمفهومية مجدي الدقاق في الإعلان عن كتابة الرئيس مبارك لمقال عن نجيب محفوظ يتصدر مجلة الهلال، وهو ماجذب النظّارة والمارة قبل أن يكتشفوا أن المقال ليس سوى رسالة تهنئة عادية استغلت (الهلال) اسم الرئيس لتصوير أنها تحمل جديداً، بينما هي ليست كذلك على الإطلاق، كنت أتوقع كغيري أن نقرأ خبطة صحفية، نعرف منها ماهو أحب عمل قرأه الرئيس لمحفوظ أو حتى ذكرياته معه، أو يعلن فيها سيادته عن عزم الدولة على عدم الإكتفاء بالإحتفالات المظهرية بمحفوظ بل السعي لتحويل أدبه إلى مشروع قومي لعلنا نكون يوما ما بلدا على مستوى أدبه،على أي حال كان عدد (الهلال) قويا ومتميزا وحافلا بدراسات وشهادات بديعة استمتعت بقراءتها، وأحيي مجدي الدقاق وأسرة الهلال عليها بصدق، وإن كنت ألومه على إضاعة الفرصة التي سنحت لكي نقترب أكثر من علاقة الرئيس مبارك بعالم محفوظ في حوار شامل تتصدره رسالة التهنئة التي أعلن عنها الهلال كمقال.

على أي حال ربما كان الإعلان عن ذلك المقال أمراً يجعل كبار مسئولي الدولة يفكرون من باب التغيير في قراءة نجيب محفوظ بجد بعيدا عن زيارات التورتة وقعدات المولد، إذ لربما لانت قلوبهم التي هي كالحجارة أو أشد قسوة، حين يرون أن الواقع الذي رصده نجيب وأعاد خلقه في رواياته هو واقع مؤسف حزين لم يتغير منه شيء أبدًا، فلازلنا نعيش حتى اللحظة زمن القاهرة الجديدة قاهرة عام 30، حيث إحسان شحاتة تحترف الدعارة وتحضر لفيديو كليب جديد، وطظ محجوب عبد الدائم هي المذهب الفكري الأكثر انتشارا بين المصريين، وعلي طه لازال يثرثر متعاليا على أوجاع إحسان وجوعها، والأخ أحمد راشد أصبح عضوا في البرلمان، والقوّاد سالم الأخشيدي يترقى من منصب قوادي أو قيادي إلى آخر (بالمناسبة هل لفت انتباهك يوما ما أن العبقري محفوظ جعل سالم الأخشيدي هو الوحيد الذي انتصر في الرواية وأوقع بخصومه مرتديا ثياب الشرف، أليس هذا واقع مصر الحزين دائماً؟).

كالعادة، قرأت هذا العام كلاماً كثيراً طيباً عن محفوظ، أغلبه سبق أن قرأناه جميعاً قبل ذلك، ولذلك تمنيت أن أجد موضوعاً صحفياً يقدم تعليقاً محفوظياً صريحاً مقتبساً من رواياته على كل مانعيشه الآن، لندرك إلى أي حد نحن لانقرأ محفوظ ولانتعلم منه، نتحدث جميعا ساسة ونخبة وعامة لبرامج التلفزيون فنصفه بالهرم، ولا ندرك أننا فعلا تعاملنا معه كالهرم الذي نعرف أن الأجداد تركوه لنا، لكننا لا نفكر في أن نبني هرما غيره، أو حتى نكون على مستواه أو نفهم كيف بُني، "أهو هرم ولقيناه"، بينما لو قرأناه حقا وصدقا ولو تحولت رواياته إلى كتب واجبة القراءة في جميع مراحل التعليم لأدركنا أن نجيب محفوظ هو الحل، وللمسنا كيف قدم أدبه الرفيع رؤية صادقة لكل هراءنا وخوائنا ومشاكلنا، رؤية يمكن أن تغير وجه مصر إلى الأبد، ولعرفنا أنه لا خير في كثير من نجوانا عن نجيب محفوظ، إذا لم ندرك يومًا ما أن الحل هو ماقاله الشيخ عبد ربه التائه عندما سألوه متى يصلح حال البلد فقال: "عندما يدرك أهلها أن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة".

ولصرخنا حزانى مع جمصة البلطي بطل (ليالي ألف ليلة) ـ رواية نجيب الأعظم في ظني ـ "من أين يجيئ شهريار بهؤلاء الحكام.. ولماذا كل من تعفف جاع في هذه المدينة.. وماذا يجري علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل" قبل أن يذكرنا العفريت سنجام بدورنا في المأساة: "الرحمة لمن يستحق الرحمة ورحاب الله مفروشة بأزاهير الفرص المتاحة لمن استمسك بالحكمة.. وأنتم إذا دعيتم لخير ادعيتم العجز واذا دعيتم لشر بادرتم إليه باسم الواجب.. فلاتعتذروا عن الفساد بالفساد"، عندها ربما نقاسم عبد القادر المهيني حزنه وهو يقول لأستاذه الشيخ عبد الله البلخي: "أسفي عليك يامدينتي التي لايتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يامولاي لايبقى في المزاود إلا شر البقر؟"، فيجيبه شيخه وشيخ مصر كلها: "ماأكثر عشاق الأشياء الخسيسة".

لكن، تصدق؟ الحمد لله أنهم لايقرأون نجيب محفوظ وإلا لكان مطلوباً الآن ضبط إحضار الشيخين عبد ربه التائه وعبد الله البلخي ورفاقهما وكل من يتشدد لهما من أعداء الأشياء الخسيسة الذين يشغلهم ذلك السؤال المرير: "من أين يجيئ شهريار بهؤلاء الحكام؟".

.....

لعلك تتفق معي أن المشكلة لم تعد في صلاحية المقال للنشر الآن، بل في أن واقعنا تجاوز الواقع الذي كُتب فيه المقال بكثير في الرداءة والانحطاط، لكن عبارة الشيخ عبد ربه التائه لا زالت معبرة وحاضرة: "إن خرجنا منها سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.