ديمقراطية القطيع

ديمقراطية القطيع

14 يونيو 2020
+ الخط -
تفاقمت التكهنات وتشعبت، غير أن الحقيقة لم تنجل بعد: ما الذي قلب اهتمامات فخامة الرئيس، رأسًا على عقب، وجعل كورونا أولوية في جدول أعماله؟ لنتابع سلسلة المفارقات الكامنة وراء هذا الانقلاب، (علمًا أن الرئيس لا يستسيغ مصطلح الانقلاب من أساسه).
في البداية، كان فخامته يعيش عزلًا طوعيًّا يبعده عن الانخراط في هذه "الجعجعة"، كما سمّاها مرة، حين حاول وزير صحته أن يجتهد أمامه ذات اجتماع "وديع"، مقترحًا عليه خطةً محكمةً لحماية البلد من خطر هذا الوباء، فما كان من الرئيس غير أن تميّز غيظًا، واتهم الوزير بمحاولة هدر موارد الخزينة على "سفاسف الأمور". وغنيٌّ عن القول إن وزير الصحة خسر صحته، بعد هذا "الاجتهاد" الذي لم يجئ في محلّه البتة.
أما السؤال الذي أرّق وزير الصحة (عقب إعدامه بالطبع)، فثار بعد أن رأى فخامة الزعيم، بغتة، مهتمًّا بهذا الوباء، ومنخرطًا في الجلبة العالمية المحتدمة بشأنه، بل ومن قادتها أيضًا.
باختصار، حدث الانقلاب مصادفةً، عندما سمع فخامته ذات يوم مسؤولًا غربيًّا يتحدّث عن "مناعة القطيع"، بوصفها أحد الاقتراحات التي تبحثها بلاده لمواجهة الوباء. آنذاك، انتفض الرئيس بغتة، وتورّدت وجنتاه، وانتابته أحاسيسُ طاووسية، تشي بأنه أحدث فتحًا مبينًا في جدار الغرب "الديمقراطي". استوقفت العبارة فخامته مطوّلًا، وشعر بحميميّةٍ بالغةٍ حيال مصطلح "القطيع" تحديدًا، ذلك أنه من أشدّ المغرمين به، والمتعاطين معه، لأنه موقنٌ أنه يحكم قطيعًا في الأساس.
آنذاك انقلب كل شيء، وشعر الرئيس أنه استعاد اعتباره المضروب بالأحذية، حين كان العالم الديمقراطي يأخذ عليه اعتناقه فلسفة القطيع، في تعامله مع شعبه، وأحسّ أن من حقّه أن يطالب خصومه من زعماء العالم الحرّ بتقديم اعتذار تاريخيّ له؛ لأن سلسلة أحداث الفيروس وتداعياته برهنت على صحة نهجه.
من فوره، أمر فخامته بإرسال برقيات تقريع عاجلةٍ إلى أولئك الزعماء، لا تخلو من التهكّم، قال: "عندما قلت لكم إن الاستبداد هو أساس الحكم سخرتم مني. والآن انظروا ماذا تفعلون أنتم، ها أنتم تعلنون حظر التجوال كما أفعل، وها هم رجال شرطتكم يمتشقون العصيّ، ويطاردون الناس في الشوارع لتطبيق الحظر، كما تفعل دول عريقة في الديمقراطية كالهند. وفي دول أخرى يطاردون المسنّين في الشوارع، ويعاملونهم بمهانة، لأنهم تجرّأوا على مغادرة حظائرهم... أعني منازلهم. أخلاق القطيع لا تقتصر على الغنم كما كنتم تزعمون سابقًا، بل هي صفة تنطبق على البشر، أيضًا، فهم يحبون الطاعة العمياء، شرط أن يروا العصا بيد الراعي، لا يغرنّكم "العقد الاجتماعي"، وكل ما كتبه منظّروكم في فلسفات الحكم، فالاستبداد هو أساس الحكم، لا العدالة، هذا ما أكّده فيروسكم اللعين كورونا. جرّبتم أن تحاربوه بالديمقراطية، فحصد آلافا منكم. أنا لست ضدّ نفوق الآلاف، بل على العكس أنا من القائلين إن الموت هو أساس الحياة، لأنه كفيل بحصد أرواح المعارضين والمناوئين، والإبقاء على نخبة المجتمع من الموالين الذين لا يفرّقون بين حدود الكون وحدود الحظائر.
عمومًا سأسامحكم هذه المرة عل سخريتكم القديمة مني، شرط أن تقدّموا اعتذارًا تاريخيًّا لي كما فعلتم مع غاليليو. وفي مقابل ذلك، أنا مستعدّ لتزويدكم بخبراتي الطويلة في أكاديميات الدجاج والنعاج، وفي أساليب التعامل مع القطعان.
بالطبع، تلقى الزعماء المعنيون البرقيات باهتمام بالغ؛ لأنهم كانوا يبحثون عن أيّ خلاصٍ من هذا الوباء، والأنكى أن بعضهم انتابه شعورٌ بالخجل، حيال إساءته الظن بدوافع فخامته، على الرغم من أنهم كانوا قد اعتمدوا فلسفة "مناعة القطيع"، قبل تلقيهم البرقيات بوقت قصير، وهي الفلسفة التي تنتهي بشريًّا، بالتضحية بالعجزة والمسنين لقاء الاحتفاظ بفئات الشباب فقط، غير أن ما جعلهم يعضّون أصابع الندم بعد تبنّيهم نظرية الرئيس إياه، وتطبيقها على شعوبهم، هو ما أسفرت عنه المحصلة النهائية: "هلكَ الشباب، وبقي العجزة".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.