وكان الهدف التكتيكي لحفتر، الذي يستعد لزيارة فرنسا بعد زيارة مماثلة قام بها السراج، إحداث تغييرات على الأرض من خلال هجومه على طرابلس، يتمكّن بفضلها من قلب الطاولة على خصومه، ويضعهم في حالة دفاع، ويحث المدنيين على التمرّد على رئيس حكومة الوفاق فايز السراج ومن يسانده، ليضع بذلك داعمي الأخير أمام وضع جديد قد يجعلهم يفكرون في فكّ ارتباطهم بها.
في المقابل، حصل في البداية تردّد في معسكر طرابلس، لكن سرعان ما اتضحت خطة الردّ التي استندت إلى واجهتين. الأولى عسكرية، إذ تعهّدت الأطراف الحاملة للسلاح بمواجهة المليشيات المهاجمة، وإشعارها بأنّ الحرب على طرابلس لن تكون نزهة، وبأنّ اقتحام العاصمة سيكون مكلفاً ودامياً.
أمّا الواجهة الثانية، فهي دبلوماسية، إذ قام السراج أخيراً بجولة أوروبية قادته إلى كل من روما وباريس ولندن وبرلين، فيما أجرى أمس مشاورات مع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني في العاصمة البلجيكية بروكسل، تخلله توجيه المسؤولة الأوروبية دعوة "إلى كافة الأطراف الليبية لوقف الاقتتال، والعودة إلى الحوار السياسي"، وذلك بالتزامن مع انعقاد اجتماع لمجلس شؤون الاتحاد الأوروبي، أمس لبحث ملفات عدة بينها لملف الليبي، بحضور المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، الذي أكد أن رهان بعض الأطراف على الخيار العسكري لإنهاء الأزمة في ليبيا مجرد وهم.
ورغم أنّ حسابات هذه العواصم مختلفة عن بعضها البعض بالنسبة إلى ليبيا، إلا أنّ قادتها وجدوا أنفسهم يلتقون حول مسألة أساسية، وهي الدعوة إلى وقف القتال، والتأكيد على أنّ الحرب ليست السبيل لمعالجة الأزمة الليبية. فحتى فرنسا المتهمة بالانحياز إلى حفتر، والتي ستستقبله غداً على الأرجح، وجّهت له نداءً للتوقّف عن استخدام السلاح. كما توّجت هذه الجهود الدبلوماسية بالقرار الذي أصدره مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، والذي دعا إلى وقف إطلاق النار داخل طرابلس وحولها.
ما حققه السراج في جولته الأوروبية لم يكن ممكناً، لولا صمود قواته ونجاحها في استعادة المناطق والأحياء التي خسرتها في البداية. فذلك أعطى فرصة للدبلوماسية المنتهجة من قبل رئيس حكومة الوفاق، وأضفى على محادثاته مع الحكومات الغربية قدراً من المصداقية، فهو لم يقصدهم بصفته منهزماً يبحث عن النجدة، وإنّما من منطلق الواقف على أرض صلبة، وله أنصار يقاتلون دفاعاً عن العاصمة، إلى جانب كونه الممثل الوحيد للشرعية الدولية التي لم تتغيّر، ظاهرياً على الأقل. وبهذا النهج، نجح السراج وحلفاؤه في البقاء داخل المعادلة الدولية، وأكدوا أنّ ليبيا لا يمكن أن يحكمها طرف واحد، وأنّ الصراع الدائر لن يحسم بالقوة والغلبة.
ومن المستبعد حالياً أن يقبل حفتر بإيقاف الحرب والانسحاب من المواقع التي كان قد سيطر عليها خلال هجومه على طرابلس. وهو سيضغط من أجل العودة إلى المفاوضات، لكن مع الاحتفاظ بما يعتبره "أراضي محررة" من شأنها أن تجعله في موقع الأقوى، ويمكنه بذلك أن يحصد المزيد من المكاسب السياسية والميدانية. لكن ذلك ترفضه حكومة الوفاق، لأنها تدرك أنّ القبول بهذه الخطة لن يؤدي إلا إلى ابتلاع ما تبقى من أراضٍ تحت سيطرتها، تمهيداً لسحب البساط كلياً من تحتها في مرحلة مقبلة.
وبالتالي، فإنّ حرب طرابلس مرشّحة لأن تستمرّ لأسابيع وربما لأشهر أخرى. فالحديث لم يعد اليوم عن شرق وغرب، وإنما عن نزاع مسلّح يتجّه نحو حرب المدن والأحياء. فحفتر يعمل على أن تبقى طرابلس تحت الضغط المتواصل، والدليل على ذلك استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، له، مرتين خلال أسابيع، بالتزامن مع محادثات طويلة قام بها اللواء المتقاعد وفريقه مع الاستخبارات المصرية، حول قائمة المساعدات التي يحتاجها ويأمل في الحصول عليها قريباً. أمّا الأطراف الدولية، فستستمرّ في مراوغاتها إلى أن يتمكّن أحد الطرفين من هزيمة خصمه وتفتيته، فيما أضحى السلام الدائم، احتمالاً بعيداً في السياق الراهن.
في غضون ذلك، تتصاعد نسبة الليبيين الفارين من معركة طرابلس نحو تونس. لكن ما يشغل مجلس الأمن القومي في هذه الدولة المجاورة، بشكل أكبر، هو عودة نشاط تنظيم "داعش" داخل ليبيا، واستئنافه لهجماته العسكرية والتي تجسّد آخرها في مدينة سبها ومنطقة غدوة. وتكمن خطورة ذلك في أمرين؛ أولاً احتمال تصاعد وتيرة محاولات عناصر التنظيم التسرّب إلى الأراضي التونسية، وثانياً لما لذلك من تشجيع للإرهابيين في تونس على تكثيف تحركاتهم، بعدما وفّر القتال في ليبيا مناخاً أفضل لانتشار الفوضى وتوفير الأجواء الملائمة لعودة نشاط "داعش" و"القاعدة" في أكثر من محور. وبناءً على ذلك، كثّفت قوات الجيش والأمن التونسي من عملياتها الاستباقية حتى تقطع الطريق أمام الخلايا النائمة للإرهابيين، وتوجّه رسائل مضادة تؤكّد على أنّ اليقظة والجاهزية الأمنية متوفرتان في تونس لمواجهة مختلف المخاطر والتهديدات.