تركيا: "دواء" جديد في صيدلية الأحزاب

تركيا: "دواء" جديد في صيدلية الأحزاب

15 مارس 2020
+ الخط -
بعد أشهر من إعلان رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، تأسيس حزب المستقبل، جاء دور نائب رئيس الوزراء التركي الأسبق وصانع نجاحات الاقتصاد التركي في العقد الأخير، علي باباجان، ليعلن ولادة حزب الديمقراطية والارتقاء، واختصاره بـ"دواء"، ملتحقاً بصفوف المعارضة لحزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من تكرار قيادات الأخير أن لا انتخابات مبكرة في تركيا، وأن الموعد المعلن هو عام 2023، فما فعله باباجان وأوغلو حرّك الكواليس السياسية والحزبية مجدّداً في الداخل التركي، وقلب الحسابات والمعادلات.
يقول باباجان، الهادئ البشوش: "العدالة مجروحة والديمقراطية أيضاً. السائد هو سياسة التخويف. مقدساتنا الدينية لن تكون أداة بيد السياسيين. لن نستخدم لغة الآخر والتهميش والتجريح. تركيا دولة أكبر من أن يكون قرارها تحت إشراف عقل واحد أو مجموعة ضيقة في الحكم". وجاء ردّ الفعل الأول والأهم في صفوف "العدالة والتنمية" من أقرب معاوني الرئيس التركي وزير الصناعة، مصطفى فارانك، الذي هاجم باباجان وداود أوغلو علناً، وقال: "من حرّكهما اليوم هو الأنا والنفس الأمّارة. أقدما على هذه الخطوة، بسبب سحب مناصبهم ومواقعهم من أيديهم، وليس من منطلق حاجة البلاد لهذين الحزبين". ويكتب أحد أهم الأقلام المحسوبة على حزب العدالة والتنمية، محمد بارلاص، أن حزبي داود أوغلو وباباجان لم يجذبا اهتمام المواطن التركي بقدر ما فعله وباء كورونا، بدليل عدم اهتمام وسائل الإعلام بهما، غير أن الإعلامي الليبرالي المعارض، طه أقيول، عقّب منتقداً أسلوب غالبية وسائل الإعلام المقرّبة من الحزب الحاكم، وكتب: "لم تعطنا الفرصة للتعرّف إلى برنامج الحزب الجديد، وما تقوله قياداته". ويقول الساخرون من باباجان وحزبه إنه لا فرصة له في العمل الحزبي أو السياسي، ليس لأنه يواجه المخضرم الرئيس أردوغان، بل لأنه اختار الابتعاد عن كل شيء، وتجاهل أهم الأحداث في 
الداخل التركي، حتى موضوع المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهو اليوم يظهر فجأة ليقول إنه يريد انتشال تركيا من أزماتها. ليس خطيباً مفوهاً، ولا خبرة حزبية له، لكنه ليس سياسياً مستهلكاً يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول. "هدفنا ليس الدخول في مشادّات كلامية مع أحد، بل العمل على إخراج تركيا من أزماتها". لم نرَ أيضاً ثقل عبد الله غل ودوره في إعداد أسماء الهيئة التأسيسية، على عكس ما قيل دائماً إن باباجان سيكون الرجل الوصي، بانتظار تسليم الأمانة لصاحبها. غير أن هناك في "العدالة والتنمية" من يتساءل عن فرص حزب باباجان في أن يكون "علاجاً" لهموم الأتراك ومعاناتهم. وفي المقابل، ثمّة من يردّد أن عشرات الأصوات بعد الآن قادرة على إيصال مرشح وإبعاد آخر في أي انتخاباتٍ تركية، كما جرى قبل أشهر في الانتخابات المحلية.
ويعرف الرئيس أردوغان الذي يقول منتقداً إن ولادة مثل هذه الأحزاب تؤكّد، مجدداً، الحاجة لحزب العدالة والتنمية في الحكم، يعرف جيداً أن أحداً لن يسأل عن نسبة أصوات الحزب الجديد، بقدر ما سيسأل عن الأضرار التي سيلحقها بالحزب الحاكم، لعرقلة تفرّده بالسلطة. وقد أعطى أول استطلاع للرأي الحزب الجديد 3.4% من مجموع الأصوات، وحزب داود أوغلو 2%. وإذا صحّت التوقعات اليوم، فهذا يعني تكبيد حزب العدالة خسارة ما لا يقلّ عن 4% من أصواته، على أقل تقدير، وقبل أن يتحرّك الحزبان في الساحة السياسية التركية.
رفع باباجان وداود أوغلو بيرق العصيان والمواجهة داخل حزب العدالة والتنمية، مجاهرين في انتقاد "تحول الحزب إلى أداةٍ بيد مجموعة ضيقة"، وتركه تحت رحمة حزب الحركة القومية، وزعيمه دولت بهشلي الذي يدعم الحكم من الخارج، لكنه يطارد الفرصة السانحة للانقضاض والمطالبة بحصته. وهناك حقيقة أخرى، أنه مع ولادة حزب باباجان، وقبله بأشهر حزب داود أوغلو، ووجود حزبي العدالة والسعادة، يكون أنصار الإسلام السياسي في تركيا قد تجزأوا إلى أربعة أقسام. خزانات هذه الأحزاب ومنابعها الشعبية واحدة حتى الأمس القريب، والمتمثلة بالناخب المحافظ المتدين الديمقراطي، فستكون المنافسة باتجاه كسب بقية شرائح المجتمع التركي، من ليبراليين ويساريين معتدلين وقوميين، إلى جانب الصوت الكردي طبعاً.
وقد تظهر المفاجأة الأهم في بنية المعادلات الحزبية التركية إلى العلن في السنوات القليلة المقبلة،
 فقدان اليمين الوسط خصوصيته الشعبية التقليدية المتماسكة التي لم تشتت عقوداً طويلة، ولكنها معرّضة هذه المرة للتفكك والشرذمة، بسبب الهيكلية الحزبية الجديدة في البلاد. وقد يكون الأهم والأكثر إيلاماً، فتح الطريق على وسعه أمام اليسار التركي، ليستغل هذا الفراغ، وربما من خلال التنسيق مع حزب الشعوب الديمقراطية الذي يحظى بشعبيةٍ كرديةٍ للوصول الى سدة الحكم. وقد يكون النزاع، في المرحلة السياسية المقبلة في تركيا، على/ مع حزب الشعوب الديمقراطية الذي ستكون له كلمته في الاصطفافات الجديدة، والذي يعرف أن الأقرب إليه هو حزب كمال كيليشدار أوغلو سياسياً وحزبياً، بدليل المحاولات المستمرة لتفكيكه وإضعافه وتوريطه الدائم بدعم الإرهاب. وفي المقابل، هناك حراك إبقائه في قلب المشهد الحزبي والسياسي من حزب الشعب الجمهوري المعارض.
وقد يبرز خيار التكتل الثالث أيضاً إلى العلن، واحتمال أن يجمع حزبي أوغلو وباباجان مع حزب السعادة الإسلامي المعارض وحزب الوحدة الكبرى اليميني القومي والحزب الجيد الذي تترأسه ميرال أكشنير. وذلك فيما هدف حزب العدالة والتنمية هو البقاء في الحكم، حتى ولو كان الثمن تقديم مزيد من التنازلات لحلفائه القوميين. وهدف أحزاب المعارضة إبعاد حزب أردوغان عن السلطة وحرمانه الأكثرية الداعمة في البرلمان، ليكون مقدمة لتصفية الحسابات معه على منصب الرئاسة. وقد يتحول دخول حزب باباجان على الخط إلى فرصة جديدة لحزب العدالة والتنمية، ليعيد تنظيم مواقعه وتحالفاته. ولكن مشكلة الحزب ستبقى عدم توجهه بعد نحو عملية نقد ذاتي، وإعادة تقويم أخطاء كثيرة ارتكبت في اختيار فريق القيادة والتعامل مع ملفات داخلية وخارجية كثيرة، أضعفت الحزب، وأبعدت آلافاً عنه في الانتخابات المحلية.
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.