ترفيه في تونس أم مدخل للتطبيع؟

ترفيه في تونس أم مدخل للتطبيع؟

01 يونيو 2018
+ الخط -
معتاد أن تشهد القنوات التلفزيونية برامج للترفيه والتسلية، وبغض النظر عما تتضمنه من تجاوزات كثيرة تؤثر على الوعي العام، فإن برنامجا للكاميرا الخفية تبثه إحدى القنوات التونسية شكّل مجالا خصبا للنقاشات والنقد وإثارة الجدال على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي صفوف الرأي العام.
انطلاقا من العنوان "شالوم"، يستلهم المتابع شكلا من الاستفزاز المتعمد عبر استخدام لفظ عبري يخدش الأسماع، بالإضافة إلى ومضة تصويرية للشارة المميزة للبرنامج، تحمل صورة العلم الصهيوني بشكل مستفز، وهو ما اعتبره كثيرون محاولة لتمرير رسالةٍ معينةٍ مناقضة لما يزعم منتجو البرنامج أنهم بصدد فعله أو تسويقه.
أما محتوى الحلقات التي تم تمريرها إلى حد الساعة، وتقوم على محاولة خداع أحد السياسيين، أو الوجوه المعروفة، عبر وفد صهيوني مفترض، يتضمن رجل دين يهودي، ومعه شخصيات صهيونية أخرى، لتعرض على الضيف إمكان التعاون والتواصل بين الطرفين، ولتنتهي عبر عرض مبالغ مالية ضخمة للشخصية موضوع التأثير، بدعوى أنها لدعمه في المجال السياسي والإعلامي.
وربما كانت حلقة السياسي التونسي، زعيم حركة وفاء، عبد الرؤوف العيادي، الأكثر إثارة للجدل، ضمن هذا البرنامج، حيث بدا موقفه مهزوزا إزاء الطلبات التي عرضها الوفد
 الصهيوني، وهو السياسي المعروف بمواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية، والمعادية للكيان الصهيوني، الأمر الذي أثار لبسا ولغطا لدى الرأي العام، سواء من حيث محاولة تبرير موقف الرجل بوصفه ضحية ضغط نفسي وتهديد لإظهاره بصورة المنافق المستعد للتعامل مع الصهاينة من أجل مصالح مالية وسياسية مفترضة، وهو الشخصية الثورية التي واجهت نظام بن علي بشدة، والمعروف بعدائه للنفوذ الصهيوني والأجنبي في تونس. في المقابل، لم يكن غريبا أن تظهر مواقف أخرى، تعلن ترحيبها بالتعامل مع الصهاينة، وبشكل صريح، كما تجسدت لدى أحد مدربي كرة القدم المعروفين، أو لدى أحد أتباع النظام السابق، الذي أظهر استعدادا جديا للتعامل مع المخابرات الصهيونية، بل وبدأ بعرض خدماته، وذكر أسماء لشخصيات سياسية يعرفها، يمكن أن تكون عونا له في مسعاه.
يمكن قراءة هذا التوجه العام للبرنامج على أنه، وخلافا لما يدّعيه من كونه محاولة لكشف من يتعاطف مع إسرائيل في تونس، إنما يقوم بتبييض صفحة الاحتلال الصهيوني، ويعطي صورة مغلوطة للرأي العام بشأن استعداد واسع لدى الرأي العام التونسي للتعامل مع الكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقات معه، وهو أمر يخالف الواقع، حيث كشفت الحملة التي عرفتها مواقع التواصل الاجتماعي عن رفض عميق وجذري لدى غالبية الشعب التونسي لأي محاولة للتقارب مع الصهاينة.
وجاء البرنامج ليكشف عن جانبين، أولهما وجود هؤلاء المتزلفين للكيان الصهيوني من جهة، والرفض الجماهيري الواسع لهذا الكيان، أو التعامل معه من جهة أخرى. وقد أصدرت نقابة الصحافيين التونسيين بيانا أعلنت فيه رفضها للبرنامج، وقالت إنه "لا يمتّ بصلة للمنتوج الصحافي، ولا الاستقصائي، ولا يستجيب لمعايير البرامج الترفيهية المعروفة بالكاميرا الخفية. ويتضمن انتهاكا صارخا لأخلاقيات المهنة". وطالبت النقابة بمقاطعة البرنامج وعدم متابعته.
والواقع أن اعتماد البرنامج على الإثارة، وما رافقه من لغط حتى قبل بداية بثه، منحه متابعة جماهيرية ملحوظة، بقدر ما أدى إلى حالة من الاستنكار، بالنظر إلى أنه يفتقر إلى رسالة إيجابية محدّدة، على الرغم من زعم منتجه أن هذا العمل في جوهره برنامج استقصائي، وهو توصيفٌ أثار سخرية الجهات الإعلامية والجمهور، بالنظر إلى افتقاره لأسس الصحافة الاستقصائية المعروفة، واعتماده على الضغط على الضيوف، لانتزاع مواقف معينة منهم، من أجل استجلاب متابعة الجمهور.
تكاد محاولة إيجاد بيئة مناسبة لطرح قضايا التطبيع في الشارع التونسي تكون الخلفية الحقيقية لهذا البرنامج "الترفيهي" المفترض. وهو ما تفطّن له الشارع التونسي، وتعامل مع ما ورد فيه على هذا الأساس، وخصوصا أن فكرة حضور الصهاينة في تونس، وتدخلهم في شؤونها الداخلية، حاضرة في الوجدان العام، بداية من القصف الصهيوني لمقر منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة تونس (1985)، وما خلّفه من شهداء فلسطينيين وتونسيين، وأخيرا حادثة اغتيال المهندس التونسي، محمد الزواري، القريب من المقاومة الفلسطينية (2016)، وما تركه هذا الفعل الإجرامي من شعور بالنقمة، وتصاعد العداء للكيان المحتل الذي امتد أذاه من فلسطين، ليشمل كل المناطق العربية عبر سياساته العدوانية وسلوكه الإجرامي. وهو ما جعل رفض فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني شعورا عاما وسائدا في الوعي الجمعي التونسي، ولا يمكن لأي محاولةٍ لتزييف هذا الوعي، أو اختراقه، وتحت أي شعار كان، أن تجد لها تبريرا ممكنا، أو أن تحظى بأدنى أشكال التعاطف، فالصراع ضد الصهيونية ليس من قبيل الترفيه، وإنما هو مسألة حيوية في الشعور العام لدى الشعب التونسي، بمختلف فئاته وتوجهاته.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.