قضايا التاريخ وجدل السياسة في تونس

قضايا التاريخ وجدل السياسة في تونس

20 ابريل 2018
+ الخط -
لا يمكن نفي الحضور الطاغي للأحداث التاريخية الماضية في الساحة السياسية التونسية، حيث يظهر كل سلوك سياسي معمّداً بشيء من أثر الماضي، سواء بتمجيد رموز أو استحضار مظلومية أو إعادة بحث في قضايا ظلت ردحا طويلا في طي النسيان، فالتطورات السياسية في تونس منذ 2011 لم تخرج عن سياقات وطأة التاريخ ودراما الأحداث التي شهدتها البلاد طوال ستين سنة ماضية. وبين الذين يحاولون إضفاء القداسة على الماضي، والتمسّح بأعتاب الحبيب بورقيبة من جهة والذين ينفضون الغبار عن تجاوزاتٍ دمويةٍ جرت، وانتهاكات حصلت وحقوق أُهدرت، هناك مسافة فاصلة، ربما كان مؤداها الخلاف في تقدير المسار السياسي لتونس، وطبيعة المنجز الذي جرى منذ سنوات سبع خلت.
تحاول القوى الموالية للنظام القديم (أو على الأقل التي تصطف في الخانة نفسها معه) تصوير ما جرى في تونس مجرّد نوعٍ من الفوضى المؤقتة التي تنبغي مجاوزتها، لتستعيد الدولة عافيتها من جديد، وتسترجع هيبتها التي ضاعت حسب تصوّرهم، وهم في سعيهم المحموم هذا يحاولون الاستنجاد بجزءٍ من الماضي، وتقديس شخصية بورقيبة، بوصفه صانع تونس الحديثة، وهي حالة من الولاء قد تتخذ أحيانا سمة الملهاة، أو هي نوع من الكاريكاتور مع توافد أفواجٍ من أتباع هذا التوجه إلى قبر بورقيبة في ذكرى وفاته، للتعبير عن الولاء للخط نفسه، وللتوجهات التي يعتقدون أن تونس قامت عليها منذ استقلالها. وفي المقابل، تحاول القوى التي صعدت بعد الثورة الكشف عن الظلم الذي حاق بالتونسيين طوال عهدي الاستبداد بنسختيه 
الأولى (بورقيبة) والثانية (بن علي)، للتأكيد على أن التجاوزات لا تعود إلى مجرد أخطاء سياسية حصلت في طريق بناء الدولة الحديثة، وإنما هي نتاج خيارات رسمية اتخذها النظام السياسي لدولة ما بعد الاستقلال، حيث هيمن الحزب الواحد، وتم تأميم الفضاء العمومي لمصلحة الدولة، وإقصاء كل المعارضين السياسيين، وإلغاء الأحزاب والجمعيات التي قد تخرج عن هيمنة الحزب الواحد.
ولم يكن عجيبا وسط هذا الجدل أن تكون القضايا المركزية للصراع السياسي، والمتعلقة خصوصا بهيئة الحقيقة والكرامة، وبمتعلقات وثيقة الاستقلال، ومدى تحقق تخلص البلاد من التبعية السياسية والاقتصادية للمحتل السابق مجالا للصراع الجدلي والخصومات اللفظية بين الجهات المختلفة لم يتخلف عنها حتى من يسميهم بعضهم "نخبا" من المستفيدين من الوضع السابق، أو اللاحق، لنرى عريضة سياسية لستين مؤرخا مفترضا، تندد بما تسميه تجاوزا بحق الزعيم بورقيبة، في مقابل ندوات نظمتها مراكز بحثية وجمعيات ثقافية للحديث عن الإخلالات التي شابت مرحلة النضال من أجل التحرّر التي خاضها الشعب التونسي، ومدى مصداقية الحديث عن حرية وطنية فعلية، وصولا إلى اللحظة الراهنة.
غير أن ما تنبغي ملاحظته، في ظل الجدل السياسي المُغرق بشظايا من التاريخ القريب للبلاد، أن كلا الجانبين يحاول تسجيل نقاط سياسية لصالحه، باستدعاء أحداث من التاريخ، أو رموز ذهبت في الدهر الغابر. فلا يمكن بعد الثورة أن ينفي كل مراقب موضوعي أن كل الأطراف المتصارعة اليوم قد استفادت من التحول السياسي الحالي في تونس ما بعد الثورة، وحتى أشد الناس عداءً للثورة من أنصار النظام القديم ما كان ليدور بخلده يوما أن يصل إلى مجلس النواب، أو أن يحتل مواقع في الوزارة والرئاسة، في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وهو ما يعني أن كل هذه البكائيات لا تعني شيئا سوى استجداء بعض الحنين للماضي لدى جزء مغيّب من الجمهور التونسي.
وفي المقابل، على القوى الصاعدة بعد الثورة، وعلى الرغم من أحقية طرحها بشأن ما جرى 
سابقا من تجاوزات في ظل النظام السياسي السابق، ألا تبالغ في التشكيك في استقلال البلاد، وقدرتها على تقرير مصيرها، فالأمر لا يتعلق بشعارات، وإنما بأمر واقع، ينبغي التعامل معه وتطويره وتغييره إلى الأفضل. فحتى وإن كان استقلال تونس، ككل دول العالم الثالث، يعاني من بعض الإخلالات، فإن الحل لا يكون من خلال الشعارات وحرب الدعايات، بقدر ما يقتضي استغلال فرصة الحرية والديمقراطية من أجل تقديم برامج فعلية تخرج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية، وتحقق النمو والرخاء للشعب. أما التاريخ، وعلى الرغم من صعوبة إلغاء حضوره في المشهد، فإنه ينبغي تحريره من لعبة الإيديولوجيا والتجاذب السياسي، ومنح الفرصة للمؤرخين والمختصين من أجل البحث فيه، وكشف خفاياه، ومراجعته خارج كل وصاية أو توجيه لمصلحة أي طرف.
حان الوقت لكي تنضج النخبة السياسية التونسية، وتدرك طبيعة المهام المطروحة عليها في هذه المرحلة العصيبة، وألا تنشغل بالجدل الخالي من المعنى، أو الدعايات الفجّة، وأن تتّجه إلى التأثير والإنجاز، فالمرحلة الحالية لم تعد تحتمل مزيداً من التسويف والانتظار.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.