تحيّاتي، زرافتُكَ

تحيّاتي، زرافتُكَ

26 ديسمبر 2018
"السحرة"، لـ كارلوس ميريدا/ غواتيمالا
+ الخط -

زرافة تكتب رسالتها الأولى

زرافة كانت تعيش في غابات السافانا، في جنوب أفريقيا. للأسف كانت تشعر بالملل الشديد.
السماء في هذا اليوم أيضاً مُشعّة وزرقاء، إلا من غيوم قليلة حلّقَتْ بعيداً.

هبّتْ نسمة خفيفة، بينما الزرافة كانت تمضغُ، برغبة كبيرة، وجبتها المفضّلة من أوراق الأكاسيا.
ألا تبدو، حقيقة، هذه الحياة رائعة؟
نعم، بالطبع كانت كذلك.

مقابل هذه الحياة لم يكن هناك ولو احتجاج ضئيل. إلا أنّه كان يوجد شيء ما؛ كانت الزرافة لديها أمنية تتمناها كثيراً. كانت الأمنية هي وجود صديق، لأنه لم يكن لديها صديق حقيقي، لذلك كان كلّ شيء مُملاً بالنسبة لها.

وهكذا غادر للتو يومٌ مُملّ إلى نهايته. "اليوم مثل البارحة، وغداً سيكون مثل اليوم. لا يحدثُ شيء مُبهج".

نظرت الزرافة إلى الشمس التي تغيب. عيونها المدوّرة جنَحَتْ إلى الأفق. رمَشَتْ وفجأة وردَ ببالها شيء ما؛ ماذا يوجد على الطرف الآخر من الأفق؟ هل عاشت الحيوانات هناك أيضاً؟ وهل كلّ شيء بالنسبة لها على ما يُرام؟

مدّتْ الزرافة عنقها، بأعلى قدر تستطيعهُ، ولكن لم يكن هناك شيء لتراه.
"أنا..". فكرت الزرافة. "سأكتبُ رسالة!". جاءتها هذه الفكرة لسبب معيّن؛ فقد تدلّتْ مؤخّراً لافتة على غصن من أغصان شجرة أكاسيا "افتتاح خدمة البريد، ننقلُ كلّ شيء إلى كلّ مكان، رسوم النقل تُحدّد بعد الاتفاق. (التوقيع) بجعَتُكم التي تشعر بالملل!".

"آه. البجعة أيضاً تشعرُ بالملل؟" تساءلت الزرافةُ، ثمّ قالت لنفسها: "لأنّها تشعرُ بالملل مثلي، فلن يزيد مللي عندما أكتب رسالة، وعندها لن تشعر هي أيضاً بالملل عندما تأخذ الرسالة إلى الطرف الآخر من الأفق!".

صمّمت الزرافة على تنفيذ قرارها. فكّرتْ في ذلك من كل الجوانب؛، ماذا عليها أن تكتب؟ ولمَن؟ وكيف؟. وعندما جاء وقت النوم كانت في مزاج أفضل بكثير مما كانت عليه طوال النهار.

بمجرّد أن انتهت من كتابة الرسالة في اليوم التالي، ذهبَتْ الزرافةُ مباشرة إلى البجعة.
"إلى أين يجب أن تصل الرسالة؟". سألتْ البجعة. كانت منفعلة نوعاً ما، لأنّها كانت أول مهمّة لها (في عملها ساعية بريد).

"ينبغي عليك تسليمها لأول حيوان تقابلينه وراء الأفق". قالت الزرافة بانفعالٍ لطيف.
"الأفق؟.... الذي هناك... أم تقصدين غيره؟". أشارتْ البجعة إلى الخط الفاصل بين السماء الزرقاء والسافانا الخضراء.

"نعم نعم، بالضبط، هناك". ردّتْ الزرافة بقدر من الحماس. ثم أضافتْ: "واجلبي لي بسرعة من فضلك الردّ أيضاً".

"سأفعل ذلك. إنّه لا يبدو بعيداً. بالتأكيد سأعود قبل المغيب". قالت البجعة وارتفعَتْ في الهواء.

"اجلبي لي جواباً. من الضروري أن تفعلي ذلك.. رجاء.."، صاحت الزرافة بذلك مجدداً.
"أوكي أوكيييي ".

البجعة صارت تصغر مبتعدة إلى أن ابتلعتها السماء الزرقاء.

■ ■ ■


هل الأفق بعيد؟ أم قريب؟

لقد قالت البجعة، بشكل دقيق، بأنّها ستعود قبل غروب الشمس، ولكن السماء مظلمة الآن. زفرَتْ الزرافة بخيبة أمل. "بالتأكيد لن تستطيع البجعة الطيران في العتمة. يجب عليها حتماً أن تنام الليلة. حينها لا يُمكن لأحدٍ أن يفعلَ شيئاً. من الأفضل أن أذهبَ أنا أيضاً إلى النوم".

أغلقتْ الزرافة عينيها بهدوء. لم تكن قلقة. كان كل شيء على ما يُرام. ستعود البجعة بشكل مؤكد، وستجلبُ معها جواباً من الطرف الآخر للأفق.

في اليوم التالي انتظرت الزرافة، منذ الصباح الباكر، على طريق عودة البجعة. إنها لا تشعر بالملل مُطلقاً الآن. مدّتْ رقبتَها بنشاط وراحت تنتظر، لذلك طالَت رقبتها هذا الصباح ما يُقارب الثلاثة سنتيمترات!

إنّها الظهيرة. وعندما ازداد طول رقبة الزرافة خمسة سنتيمترات أخرى، عادَتْ البجعة. كانت الزرافة مرتبكة، وصارت تصرخ: "بسرعة. بسرعة. قدّمي لي الرد. هيا بسرعة".

رمَتْ البجعةُ الزرافةَ بنظرات التأنيب. "أف. لحظة. هل تعرفين عموماً، كم كان ذلك مُرهقاً؟". قالت ذلك وكانت عابسة نوعاً ما.

شعرَتْ الزرافة بارتباك وأخذَتْ نفسَاً عميقاً. "آه هذا صحيح، يجب أن تكوني مُرهقة. ضعي حقيبتكِ أولاً. كُلي شيئاً من الطعام، وخذي قسطاً من الراحة". قالت الزرافة، إلا أنّها غضبَتْ في سرّها جرّاء ذلك. "كلام فارغ" قالت في سرّها. ثمّ فكرتْ "لماذا قلتُ ذلك فقط؟". في النهاية أرادتْ أن تقرأ الردّ على رسالتها، بأقصى سرعة ممكنة.

البجعة أكلَتْ برغبة عارمة حتى أصبحت حالتها أفضل، ثمّ قدّمَت تقريرها؛ بأنّ المسافة إلى الأفق بعيدة جداً، ليسَ كما بدا لها. لقد طارَتْ وطارت، ولكن الأفق لم يقترب أبداً. أخيراً وصلَتْ إلى مساحة مائيّة كبيرة، أكبر من كل بحار أفريقيا. أوّل حيوان قابلتْهُ هناك كان يُدعى روبي.

"بلى، لقد قلتِ لي، بأنّ أُسلّم الرسالة لأول حيوان أقابله. صحيح؟". سألَتْ البجعة. "نعم، بالضبط". أومأَتْ الزرافةُ بقوّة.

مضت البجعة في كلامها: "لذا أعطيتُ روبي الرسالة، وقلتُ له: هذه رسالة، وقد طُلبَ مني أن أعودَ سريعاً بالرد عليها". "اعتبريه حصل". قال روبي ثمّ أسرعَ داخل المياه.

في وقت لاحق اكتشفت أنّ مساحة المياه الكبيرة، التي أشارت إليها سابقاً، كانت "بحر الحوت". هناك حمل إليها روبي البريد!

رأت البجعة أمراً خاصاً ومثيراً للاهتمام، بأنّ الرد الذي جلبه روبي منذ قليل يُعتبر جائزة تتلقاها على عملها العظيم!.

"ومَن الذي تلقّى رسالتي إذن؟". قالت الزرافة التي تفقدُ صبرها دائماً.

"الرسالة.. بطريقة ما... عند أحد" أجابت البجعة بصوت منخفض.

"و(أحد) هذا هل عنده الرسالة الآن؟". سألت الزرافة وقد مالَت بفضول.

"لا لا. هو لا يُدعى (أحد).. هو يُدعى .. كيف أقول لك.. لحظة.. آه لقد ضاع مني الآن... هو الوحيد الذي تلقى الرسالة".

البجعة حاولت جاهدة تذكّر الاسم. ولكنّ ذلك ما عاد يهمّ الزرافة؛ هي لا تستطيع الانتظار أكثر من ذلك لكي تقرأ الرد على رسالتها. كان مُملاً لها أن تسأل أكثر عن اسم الذي تلقى الرسالة. جلستْ مرتجفة من الشوق وقلبها يدقُّ بجنون! بينما البجعة استرسلَتْ طويلاً في وصف مهمّتها الأولى، فقد أصبح الوقت ليلاً، وطوال كل ذلك الوقت، وحتى حينما أرادت الذهاب إلى بيتها لم يرد إلى بالها اسم ذلك الـ"أحد" الذي سلّمته الرسالة!

فضّلت الزرافة قراءة الرسالة بسرعة، ولكنّها، في آخر الأمر، كان عليها أن تنتظر حتى الصباح. بكلّ الأحوال كانت العتمة قد حلّت في هذه الأثناء، ولا يُمكنها القراءة، لأنّ القمر كانَ مثل منجل نحيل.

أتدرونَ مَن الذي استلمَ الرسالة من البجعة؟ كان رنينُ اسمه تقريباً مثلما قالت البجعة. صحيح. لقد كان بطريقاً.


* هاتان القصتان مأخوذتان من كتاب "تحيّاتي، زرافتُكَ" المخصّص للأطفال الذين يُعانون من التوحّد

** موغامي إيفاسا ولدت في اليابان في عام 1958، ودرست كمصمّمة جرافيك في "المعهد العالي للفنون الجميلة" في طوكيو.

*** ترجمها من الألمانيّة: عارف حمزة

المساهمون