انفجارات بيروت وعطالة الكلام

انفجارات بيروت وعطالة الكلام

08 اغسطس 2020
ما بقي من شرفة بيت ومن مدينة (Getty)
+ الخط -

رمَى الطابعُ المفاجئ لانفجارات بيروت بالعقول في حالة من الذهول العميق. تمضي الساعات، دونَ أن تقدرَ الخطابات، بمختلف ألوانها السياسية والثقافيّة، على التعبير عن موقف بالمعنى السارتري للكلمة، وتوقفت كل السرديات في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي انعدمت فيها سائر الاحتمالات السردية، لحظة عَطالَة وذهول كما سمهاها الناقد الفرنسي كلود بريمون، حين يُحجزُ النص عن التقدم بسبب انغلاق المنافذ السردية وغياب كل الإمكانات الخطابية التي تحرّك الواقع وتعين على ضبطه وسكناه.

ذهل صنّاع القرار، فما تمكنوا لا من الإدانة ولا من بَعث الأمل، لا من توجيه أصابع الاتهام بشكل صريح، ولا من تشجيع الفئات الشعبية المتضررة وتصبيرها على مصابها الجلل، كما يَجب على الدولة أن تفعل في مثل هذه الحالات، وهذا من وظائفها الرئيسة، وحتى عبارات المواساة، الرسمية منها والشعبية، كانت شديدة الجفاف، ذات طابع خشبي ظاهر الزيف. إذ لجأت اللغة إلى ما بقي لها من عبارات الكارثية، مثل أبوكاليبس ونهاية العالم، لتوصيف هذا الذي حَصل، مع إحساس عميق بأن الكلام لا يستعيد أي واقع ولا ينطبق على ما حدث، لأن الانفجارات الهائلة انحدرت من قاموس آخر، يدل على سياق مختلف لا يصفه من قبل مخزون الذاكرة، ولا يستدعي سوى فظاعة الإهمال وكارثية اللامبالاة الرسمية وحجم الفساد السائد منذ عقود.

إحساس بأن اللغة لا تستعيد أي واقع ولا تنطبق على ما حدث

تعطلت الخطابات وتوقف السرد بعد أن غابت الاحتمالات أمام هول الانفجارات التي كانت أبعد ما يمكن أن تصل إليه التكهنات في نص الزمن، مع أنها كانت الأكثرَ توقعًا في مساره المنطقي: مفارقة بين بُعد الاحتمالات وضرورة حصول أقساها وأشدها كارثية، وقد حصلَ بعيدًا عن أقصى التوقعات، ولذلك انطوت الخطابات في صمتها، الذي بات أوكد الضرورات، ذاهلةً، متوقفة القدرات تشاهد المعاناة ولا تسير منها عبارات ولا تؤدي وظائف الإحالة والتمثيل التي قام بها الكلام منذ أن وجدت اللغة.

ففي هذه الساعات التي تلت الانفجار توقف الخيال والعقل الخطابي، في ذات الآن، عن توصيف الكارثة وعن اقتراح احتمالات جديدة طازجة، تحرك حكاية لبنان، الآن وهنا. نَفَدت سائر الإمكانات التي يمكن أن تنطوي في ثنايا التاريخ، وجفت منابع الفعل السياسي ومبرراته وذوى منطقه وفرغ معجمه. بدا الخطاب مأسورًا في منطقة الذهول، لا الاندهاش السقراطي، ذاك الذي يدفع للمعرفة ويحث على الفهم، ولا حتى ريبية الغزالي وشكية ديكارت حين انقطع كلاهما عن الإدراك واستيعاب وتائر الواقع. ذهول عبثي.

وصف بعض الملاحظين لبنان بالثقب الأسود، الذي سيبتلع كل ما يصل إليه. وهو اليوم يبتلع بالفعل كل إمكانات الخطاب وكفاءة اللغة والكلام في تصوير حجم الدمار والفساد، وهي حالة ذكَرها تودوروف، وصاغ عنها نظرية عجز الخطابات مهما كان تألقها وَصَفَتْ بلاغتها عن تبرير الشر وتحرير العنف، كل الأيديولوجيات تسقط أمام هذا العنف العبثي الذي حَصد أرواح الأبرياء، بلا منطق يفسر وجودهم في المرفأ وما حوله في تلك الدقيقة المرعبة بالذات، لا تفسير ولا تبرير. تتسارع بعض وتائر الكلام، تُلاحق المشاهدَ، يغوص في مدخراته، ولا يجد سوى العدم وأزيز سيارات الإسعاف.

كانت كلماتُ الأمل والمواساة باردةً ومصطنعة، مع أن الألم حقيقي وعميق. ولذلك لن نجترها، بل نكتفي بالإشارة إلى أن الوعي بعطالة الكلام من أولى مراحل إزالة الغُبار الأسود. على اللغة أن تتحرر من أثقال هذا الذهول حتى تشتعلَ من جديد شعلة بروميثيوس.    


* كاتب وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون