15 سبتمبر 2024
الهبَّة الفلسطينية وإضراب المعلمين
ربما لا يلحظ متابعون للشأن الفلسطيني رابطاً بين الهبَّة الفلسطينية الموجَّهة ضد الاحتلال، والمستمرة منذ أشهر، وإضراب المعلمين الذي يتصاعد، خارج الإطار (القانوني)، وهو "اتحاد المعلمين"، بإجماعٍ وإصراريْن غير مسبوقين، لكن المدقِّق يلمح قاسماً مشتركا بينهما.
لا تخضع الهبَّة التي غلبت عليها عملياتُ الطعن والدهس، وتعذَّر على الاحتلال وقفُها، لقيادة تنظيم معيَّن، بقدر ما تبدو شعبية، وفردية، وهذا من عوامل الإخفاق الأمني ضدها؛ إذ يصعب التنبُّؤ بسلوك فلسطيني يعزم على أيٍّ من عملياتها، فلا دالَّة استخبارية عليه، حتى إن بعضها صدر عن أفراد لم يكن متوقعاً منهم، كما كان من منفِّذ عملية بيت إيل، شمال رام الله، أمجد سكّر، وهو رقيب أول في الشرطة، ويعمل مرافقا لرئيس نيابة رام الله، أب لأربعة أطفال أصغرهم عمره ستة أشهر. وقد أسفر إطلاقُه النار على جنود إسرائيليين عن إصابة ثلاثة منهم، جروح اثنين منهم خطيرة. لم يمنعه انتسابه إلى أجهزة السلطة الأمنية، ولم يمنعه أنه ربّ أسرة، ووالد لأطفال صغار، من الانخراط في الهبة الغاضبة، ومن تنفيذ عملية مسلحة موجعة.
ومما يميِّز هذه الهبَّة، مع تذبذب وتيرتها، أنَّ المنفذين لا يتراجعون، على الرغم من أنهم في حِلٍّ من أيِّ التزام خارجي، تنظيمي، أو غيره، غالباً، ما يذكّر بمقولة الكتاب الصيني "الطريق إلى الفضيلة" إنه "إذا كان الناس لا يخافون أن يموتوا فلا فائدة من تخويفهم بالموت". وكما يُصعّب هذا الإصرار، وانتفاء التهيُّب من الموت، على قوَّات الاحتلال، وقادته الأمنيِّين، الحلولَ الحاسمة، فإن التحرُّكات التي لا تبدو منظَّمة، تُصعّب على الاحتلال إضعافَها عن طريق النيْل من (القادة)، فهي بلا قيادة، أو بلا قيادة ظاهرة، على الأقل. ويطرح قادة في إسرائيل مقترحات تروم التخفيف من الاحتقان، ويركِّزون على الحلول المعيشية المؤقتة، مثل زيادة عدد التصريحات الممنوحة للعمل في "إسرائيل"، علماً أن العامل الاقتصادي ليس أقوى الدوافع، فالمنفِّذون متنوّعون، ومنهم شبابٌ ليسوا مثقلين بالأعباء الاقتصادية، ومنهم فتيات، ومنهم مَن لهم دخل ثابت ومقبول.
أما إضراب المعلمين الذي يشلُّ العملية التعليمية، في الضفة الغربية، ويَخرج فيه المعلمون عن
"اتِّحادهم" الذي أثبت أنه أقرب إلى الحكومة منه إلى المعلمين، فإنه أيضاً يشي بحالة من الغضب الواسع، حيث لم تفلح (وسائل الإغراء) المتأخِّرة، إذ وافقت الحكومة على تنفيذ وعود سابقةٍ كانت قد تلكأت في تنفيذ قسمٍ منها، وُقِّعتْ في اتفاقٍ سابق في 2013، كما لم تفلح بعضُ الأساليب الخشنة، مثل اعتقال بعض المعلمين، قبل أن تتراجع الأجهزة الأمنية، وتفرج عنهم، أمام رفض شعبي ونخبوي.
ولا تخفى القيمة الرمزية لقطاع التعليم الذي يُعدُّ مؤشِّراً إيجابياً، أو سلبياً على وضع السلطة وقدرتها على ضبط الحياة الفلسطينية، وتسييرها، حيث يفوق عدد الطلاب في الضفة الغربية 684 ألفا، ويفوق عدد المعلمين فيها وحدها 40 ألفا، بحسب أحدث تقارير وزارة التربية والتعليم العالي. والواضح أن الإضراب غير مدفوع بأجندات سياسية حزبية، كما حاولت أطرافٌ أن توحي، وأنْ تنسب ذلك إلى حركة حماس، لكنها ما لبثت أن أدركت أن ذلك، فوق كونه منافياً للواقع، حيث الالتزام التام، أو شبه التام، من المعلمين، واندفاعهم الكبير غير المسبوق إلى مقرّ مجلس الوزراء في رام الله، (15 فبراير/ شباط الجاري)، لا يدلّان على أن الإضراب استجابة لحركة أو حزب، كما أن نسبته إلى "حماس"، فضلاً عن أنها منافية للواقع، تمنح حماس قوة هائلة، إذ تقرّ ضمناً بقدرتها على هذا الاختراق المهم.
ولكن العوامل والدوافع تتداخل أحياناً، وتعمل في الأفراد والجماعات على نحو غير واع، فالمعلم جزء من الشعب الفلسطيني، وقد تضافرت عليه أسبابُ الضيق، والخيبات السياسية، فأغلب الظن أن ذلك، مشتبكاً، مع الهمِّ الاقتصادي الحقيقي والمشروع، وجد تعبيراً له في هذه الحالة غير المعهودة من القوّة والنضالية العالية التي فرضت أمراً واقعاً، على الرغم من أن الجسم النقابي (المنتخب والقانوني)، وهو اتحاد المعلمين، يعلن تبرُّؤَه من الإضراب، ويدعو، مع الحكومة، إلى الالتزام بالدوام، في كلِّ مرة، وفي كلِّ يوم، ثم يكون الردُّ إضراباتٍ شاملة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها. وربما كان الشعور بالظلم الحقوقي وبالإجحاف والانتقاص، وهو المُعبِّر عن قلة تقدير، في رأي المعلمين وغيرهم من قطاعات شعبية ونخبوية، مستفزِّا لكرامة المعلمين، حيث لم يعد بالإمكان أن يَجمعوا فوق الاحتلال والانسداد السياسي، انتقاصاً، بالمقارنة مع قطاعاتٍ أخرى، كما قطاعات الصحة والقضاء والأمن.
وكما اشتبكت في دول "الربيع العربي" عواملُ اقتصادية وسياسية، فوجدت تعبيراً لها بشعارات العدالة والكرامة، فإن الفلسطينيين في مظاهر الاحتجاج التي تتمظهر بمظهر عُنفيّ، كما "الهبَّة" أو في مظهر سلمي، كما في إضراب المعلمين، هم أيضاً قابلون لهذا التشابك، بوعي، أو بغير وعي.
لا تخضع الهبَّة التي غلبت عليها عملياتُ الطعن والدهس، وتعذَّر على الاحتلال وقفُها، لقيادة تنظيم معيَّن، بقدر ما تبدو شعبية، وفردية، وهذا من عوامل الإخفاق الأمني ضدها؛ إذ يصعب التنبُّؤ بسلوك فلسطيني يعزم على أيٍّ من عملياتها، فلا دالَّة استخبارية عليه، حتى إن بعضها صدر عن أفراد لم يكن متوقعاً منهم، كما كان من منفِّذ عملية بيت إيل، شمال رام الله، أمجد سكّر، وهو رقيب أول في الشرطة، ويعمل مرافقا لرئيس نيابة رام الله، أب لأربعة أطفال أصغرهم عمره ستة أشهر. وقد أسفر إطلاقُه النار على جنود إسرائيليين عن إصابة ثلاثة منهم، جروح اثنين منهم خطيرة. لم يمنعه انتسابه إلى أجهزة السلطة الأمنية، ولم يمنعه أنه ربّ أسرة، ووالد لأطفال صغار، من الانخراط في الهبة الغاضبة، ومن تنفيذ عملية مسلحة موجعة.
ومما يميِّز هذه الهبَّة، مع تذبذب وتيرتها، أنَّ المنفذين لا يتراجعون، على الرغم من أنهم في حِلٍّ من أيِّ التزام خارجي، تنظيمي، أو غيره، غالباً، ما يذكّر بمقولة الكتاب الصيني "الطريق إلى الفضيلة" إنه "إذا كان الناس لا يخافون أن يموتوا فلا فائدة من تخويفهم بالموت". وكما يُصعّب هذا الإصرار، وانتفاء التهيُّب من الموت، على قوَّات الاحتلال، وقادته الأمنيِّين، الحلولَ الحاسمة، فإن التحرُّكات التي لا تبدو منظَّمة، تُصعّب على الاحتلال إضعافَها عن طريق النيْل من (القادة)، فهي بلا قيادة، أو بلا قيادة ظاهرة، على الأقل. ويطرح قادة في إسرائيل مقترحات تروم التخفيف من الاحتقان، ويركِّزون على الحلول المعيشية المؤقتة، مثل زيادة عدد التصريحات الممنوحة للعمل في "إسرائيل"، علماً أن العامل الاقتصادي ليس أقوى الدوافع، فالمنفِّذون متنوّعون، ومنهم شبابٌ ليسوا مثقلين بالأعباء الاقتصادية، ومنهم فتيات، ومنهم مَن لهم دخل ثابت ومقبول.
أما إضراب المعلمين الذي يشلُّ العملية التعليمية، في الضفة الغربية، ويَخرج فيه المعلمون عن
ولا تخفى القيمة الرمزية لقطاع التعليم الذي يُعدُّ مؤشِّراً إيجابياً، أو سلبياً على وضع السلطة وقدرتها على ضبط الحياة الفلسطينية، وتسييرها، حيث يفوق عدد الطلاب في الضفة الغربية 684 ألفا، ويفوق عدد المعلمين فيها وحدها 40 ألفا، بحسب أحدث تقارير وزارة التربية والتعليم العالي. والواضح أن الإضراب غير مدفوع بأجندات سياسية حزبية، كما حاولت أطرافٌ أن توحي، وأنْ تنسب ذلك إلى حركة حماس، لكنها ما لبثت أن أدركت أن ذلك، فوق كونه منافياً للواقع، حيث الالتزام التام، أو شبه التام، من المعلمين، واندفاعهم الكبير غير المسبوق إلى مقرّ مجلس الوزراء في رام الله، (15 فبراير/ شباط الجاري)، لا يدلّان على أن الإضراب استجابة لحركة أو حزب، كما أن نسبته إلى "حماس"، فضلاً عن أنها منافية للواقع، تمنح حماس قوة هائلة، إذ تقرّ ضمناً بقدرتها على هذا الاختراق المهم.
ولكن العوامل والدوافع تتداخل أحياناً، وتعمل في الأفراد والجماعات على نحو غير واع، فالمعلم جزء من الشعب الفلسطيني، وقد تضافرت عليه أسبابُ الضيق، والخيبات السياسية، فأغلب الظن أن ذلك، مشتبكاً، مع الهمِّ الاقتصادي الحقيقي والمشروع، وجد تعبيراً له في هذه الحالة غير المعهودة من القوّة والنضالية العالية التي فرضت أمراً واقعاً، على الرغم من أن الجسم النقابي (المنتخب والقانوني)، وهو اتحاد المعلمين، يعلن تبرُّؤَه من الإضراب، ويدعو، مع الحكومة، إلى الالتزام بالدوام، في كلِّ مرة، وفي كلِّ يوم، ثم يكون الردُّ إضراباتٍ شاملة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها. وربما كان الشعور بالظلم الحقوقي وبالإجحاف والانتقاص، وهو المُعبِّر عن قلة تقدير، في رأي المعلمين وغيرهم من قطاعات شعبية ونخبوية، مستفزِّا لكرامة المعلمين، حيث لم يعد بالإمكان أن يَجمعوا فوق الاحتلال والانسداد السياسي، انتقاصاً، بالمقارنة مع قطاعاتٍ أخرى، كما قطاعات الصحة والقضاء والأمن.
وكما اشتبكت في دول "الربيع العربي" عواملُ اقتصادية وسياسية، فوجدت تعبيراً لها بشعارات العدالة والكرامة، فإن الفلسطينيين في مظاهر الاحتجاج التي تتمظهر بمظهر عُنفيّ، كما "الهبَّة" أو في مظهر سلمي، كما في إضراب المعلمين، هم أيضاً قابلون لهذا التشابك، بوعي، أو بغير وعي.
مقالات أخرى
27 اغسطس 2024
12 اغسطس 2024
14 يوليو 2024