اللبنانيون لا يجيدون الحكم ولا المعارضة

اللبنانيون لا يجيدون الحكم ولا المعارضة

10 سبتمبر 2020
+ الخط -

انسحب الجيش السوري من لبنان منذ عقد ونصف عقد. بعد ثلاثين سنة من الوصايتين، الخشنة والناعمة. بعد ثلاثين سنة في إمرة ضباط كبار كانت لهم مراكز و"استشارات" وزوّار من كل حدب وصوب. فحلّت محلّهم الوصاية الإيرانية المباشرة، عبر وكيلها المعتمد، حزب الله، عبر موجات من المدّ والجزر، سيطر على مراكز القرار. نقول "سيطر"، من دون أن "يحكم". من دون أن تكون له رؤية أو برنامج أو خطة، غير تلك الثابتة التي تتلخص بإبقاء سلاحه بيده. وإردافها لثابتةٍ من شدّ عصب الطائفة الشيعية عبر التعاويذ، والأخرى الموسمية من "محاربة إسرائيل" و"تحرير القدس"... إلخ. فكان لهم تحكّم من دون حكم. مع أن الإيرانيين دهاة، يعرفون كيف يديرون حكمهم، لكن وكيلهم، حزب الله وحلفاءه، فشل. لم يعرفوا كيف يحكمون، فكانت بدايات الانهيار، منذ سنة تقريباً، مع انفلات المصارف على جيوب اللبنانيين، وتراجع أشكال الحياة الطبيعية، وإفقار وعوز أخذا بالتصاعد، حتى لحظة الانفجار في مرفأ بيروت. وهو حدثٌ برهن، بأكثر ما يجب من البراهين، أن هؤلاء الذين يحكمون لبنان حمقى، قاصرون، عاجزون. وكان لا بد من التدخل العلني هذه المرّة، فكانت زيارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، بعد يومين من الانفجار، تلاه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في اليوم الذي يليه، فضلاً عن نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، وجميعهم يريدون خيراً للبلاد والمساعدة والإغاثة... إلخ. ماكرون تفرّد ونال تغطية إعلامية عن الاثنين. وبّخ المسؤولين الكبار، جدّد ما قاله لهم وزير خارجيته جان إيف لودريان، وسبح في بحر جماهيري مرحّب به، في المكان الأكثر تضرّراً من الانفجار، وعناق وكلمات جميلة. بعده بأيام، ديفيد هيل، المسؤول الأميركي الرفيع، الذي نزل إلى الشارع، ولكنه قال كلاماً موزوناً، وقابل من قابل من الرسميين. قال ماكرون إنه سيعود في الأول من أيلول، وينتظر في ذاك التاريخ أن يعيَّن رئيس وزراء جديد، وتؤلف حكومة... إلخ. في الزيارة الثانية، بدا ماكرون أكثر "واقعية". 

مع أن الإيرانيين دهاة، يعرفون كيف يديرون حكمهم، لكن وكيلهم، حزب الله وحلفاءه، فشل

صحيح أنه رمى سهماً شعبياً رمزياً، بزيارته السيدة فيروز، وقد أفهمه مستشاروه أنها تحظى بقوة رمزية هائلة، وتلخص مرحلة ذهبية من لبنان، واقعياً وخيالياً. ولكن أيضاً، وضع الجميع أمام برنامجه، وأمام النقطة الأهم، أنه مطلوب مشاركة حزب الله في هذين، البرنامج والحكومة، وليست مسألة نزع سلاحه الآن قضية مفيدة أو ممكنة، فيما كل إشارات زيارته الثانية تنمّ عن وجهة "واقعية"، كما يقول، كانت نتيجتها أنه انكبّ على الحكام، على السلطة الحاكمة، لاعباً دور ناظر المدرسة: أنه إذا لم تقوموا بفروضكم ستنالون عقاباً، هو حرمانكم المال الموعودين به، ليُنتشلوا من الكارثة الاقتصادية التي سببوها. 

ثم حضر قبل أيام المسؤول الأميركي الرفيع، ديفيد شينكر، الأعلى رتبة من سلفه، ديفيد هيل. تجاهل شينكر كل الطاقم الرسمي هذا، وأدار نقاشاً مع أشخاصٍ من المجتمع المدني. افتراضياً أو شخصياً، وزار نواباً مستقيلين من البرلمان. وقال، عكس ماكرون، إنه لا يريد حزب الله في الحكم، وإنه نصح ثوار المجتمع المدني بتوحيد أطرهم وبرامجهم، إذا أرادوا النجاح في مسعاهم إلى تغيير الطبقة الحاكمة. ونظراً إلى قلة اعتراض المسؤول الأميركي على مبادرة الرئيس الفرنسي، بدا وكأن الاثنين، المسؤول الأميركي والرئيس الفرنسي، قد قسّما عملهما في لبنان. الأخير يتولّى إدارة الطبقة الحاكمة، إرشادها وإغراءها عبر تعويمها، وفي الوقت نفسه تهديدها، بصفتها قاصرة. ولا يختلف مشهده عن ذاك الذي يصيب علاقة الأستاذ بتلامذته القصّر المشاغبين الذين لا يعرفون مصلحتهم، ويحتاجون إلى من يديرهم. أما الأميركي، فكانت أستذته تجري على الثوار والنواب المعارضين. لا نعرف عن فحوى لقائه معهم غير هذا القليل الوارد أعلاه. لكن الحديث الذي أدلى به اثنان من هؤلاء الأعضاء في المجتمع المدني إلى وسائل الإعلام، لا يشي بما يختلف كثيراً. إذ يؤكّدان نجابتهم ومثابرتهم واستماعهم بنباهة فائقة إلى إرشادات المبعوث الأميركي... إلخ. 

يحتاج حكام لبنان دائماً من يديرهم من الخارج ليحكموا، بل حتى الإدارة الخارجية التي سبقت الانفجار لم تكن كافيةً لتخصّب استقراراً أو نظاماً

وعلى اختلاف غير بسيط بين الفرنسي والأميركي، إلا أن ثمّة نقطة يلتقيان عليها، أي التحقيق الجدّي في مسؤولية أو مسؤوليات انفجار مرفأ بيروت. في "برنامجه" الذي وضعه بين أيدي الحكومة الذاهبة إلى التشكّل، والمؤلّف من أربع نقاط، يأتي التحقيق في النقطة الثانية، مع "إعادة إعمار بيروت"، ولا يردّده ماكرون في مطوّلاته في الصحافة، مقابل تركيزه على "الإصلاحات". بعدما ألغى بند "الانتخابات"، بناءً على رفض الحكام لها. فيما أصدر الأميركي ديفيد شينكر حكمه، قبل قدومه إلى بيروت بأن "كارثة مرفأ بيروت نتاج عقود من إهمال الحكومات اللبنانية لمصالح الشعب اللبناني". هي إذاً "إهمال"، وإهمال آخر لطرح موضوع التحقيق، إنما تركيز على حزب الله، على رفضه مشاركة هذا الأخير في الحكم. 

ما الذي يقف خلف الاتفاق الضمني بين الفرنسي والأميركي على عدم التركيز على موضوع التحقيق؟ علماً أن محققين من الجنسيتين يتابعون مجراه، بل يشاركون فيه؟ موقفان يشبهان من سبقهما: بعد ساعات من الانفجار، اتفق حزب الله وإسرائيل على عدم تحميل الأخيرة المسؤولية عنه. أي ثمة أربعة أطراف رئيسيين متفقين على نقطتين: عدم مسؤولية إسرائيل، وبالتالي عدم مسؤولية حزب الله. ثم مسؤولية "المسؤولين" تنحصر بـ"إهمالهم"، أي بلوغهم نتائج التحقيق، أو رسم وجهته، قبل إعلانها رسمياً، مخالفين بذلك كل الانتظارات الشعبية الجارفة، المطالبة بإعطاء أولوية للتحقيق، ومهما كانت النتائج، وليس كما يحصل اليوم من غموض وتسريبات عن "داعشي"، أو عامل بائس، أو مدير محسوب على هذه أو تلك من "المرجعيات"... وكلام خرج من رئيس الجمهورية في لحظة تبرّم أو كبرياء، بأنه "نعم، كنتُ أعلم" بكل تفاصيل الأمونيوم والخطر... إلخ. 

لا يعرف اللبنانيون أن يحكموا أنفسهم، سواء كانوا يميناً أو يساراً، سلطة أو معارضة، هم دائماً بحاجة إلى من يسوسهم

للطرفة فقط: التلاميذ غير النجباء الذين وبّخهم ماكرون لم ينتظروا هبوط طائرته في باريس لكي يعودوا إلى تفلتهم وقلة عقلهم وكثرة مصالحهم المتضاربة بالعمق مع تشكيل حكومة إلى برنامج إصلاح إلى ما هنالك مما طلبه منهم الناظر ماكرون. ولكن ما أضافوه إلى سجل التاريخ اللبناني، هو انعدام قدرتهم على الحكم. يحتاج حكام لبنان دائماً من يديرهم من الخارج ليحكموا، بل حتى الإدارة الخارجية التي سبقت الانفجار لم تكن كافيةً لتخصّب استقراراً أو نظاماً. عقد ونصف عقد، وقد "تحرّروا" من الوصاية السورية، فشلت الوصاية الإيرانية بإدارتهم، فكان الانفجار الذي رمى لهم تدخلات دولية وإقليمية أتت من كل حدب وصوب. كل واحدة حسب رأس مالها الرمزي والمالي. وحتى المعارضون لهم ورثوا عنهم تلك الحاجة إلى من يكون فوق رأسهم ليديروا حكماً صالحاً، بعدما مشوا على "الطريق الصحيح" المُفضي إليه. 

هذه صفة ليست جديدة. لنتذكّر أن الرئيس اللبناني الذي أتى بعد ثورة 1958، كان اسمه نتاج اتفاق مصري أميركي، وأنه عشية الحرب الأهلية عام 1976، دخل الجيش السوري لبنان لإنقاذ خصومه المفترضين من اليمين اللبناني بـ"ضوء أخضر" أميركي إسرائيلي. لكن هذا الضوء انطفأ بعد زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، إسرائيل، وتوقيع اتفاقية سلام معها، فتأجّجت الوصايات بعد ذلك، حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وهو العام الذي أعدّ لصعود حزب الله في لبنان... إلخ. ولائحة التواريخ لا تنتهي، لا قبل ذلك ولا بعده. ولكن المهم الخلاصة أن اللبنانيين لا يعرفون أن يحكموا أنفسهم، سواء كانوا يميناً أو يساراً، سلطة أو معارضة. هم دائماً بحاجة إلى من يسوسهم. لماذا؟ أو بالأحرى كيف؟ سؤال له مقام آخر.