السينما المصرية و"كانّ": بين الندية والفتور

السينما المصرية و"كانّ": بين الندية والفتور

07 مايو 2018
يوسف شاهين (فيسبوك)
+ الخط -
ربما يبدو غريباً القول ـ في اللحظة التي يمثّل فيها عرضُ فيلمٍ مصريّ ("يوم الدين" لأبو بكر شوقي) في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" حدثًا بالغ الندرة والأهمية ـ إنّ العلاقة بين السينما المصرية والمهرجان الدولي في دوراته الأولى كانت ندّية كاملة، ترتكز على منفعة متبادلة بين مهرجان ـ يستفيد من تنوّع أفلامٍ مختارة من بلدانٍ مختلفة، ويستهدف مصر تحديدًا، نظرًا إلى قوّة صناعتها السينمائية في تلك الفترة ـ وسينما موجودة باستمرار في الساحة الدولية، احتكاكًا وتقديرًا.


بدأ الأمر مع الدورة الأولى للمهرجان عام 1946، حين عرض "دنيا" لمحمد كريم في المسابقة الرسمية، وكان بطله يوسف وهبي أحد أعضاء لجنة التحكيم الخاصة بالأفلام الطويلة والقصيرة يومها. منذ ذلك الحين، وفي 10 أعوام فقط، عُرضت 8 أفلام مصرية في المسابقة الرسمية للمهرجان، بعضها تقليدي جدًا، وربما متواضع فنيًا، كـ"مغامرات عنتر وعبلة" (1948) لصلاح أبو سيف و"البيت الكبير" (1949) لأحمد كامل مرسي و"ليلة غرام" (1952) لأحمد بدرخان، وهي أفلام استفادت من سياسة التنوّع التي يمارسها المهرجان، لتنال فرصة عرض. لكن الأفلام الـ5 الأخرى التي شاركت في "كانّ" في خمسينيات القرن الـ20 تنتمي، لغاية الآن، إلى كلاسيكيات السينما المصرية.


اللافت للانتباه فعليًا كامنٌ في كيفية مساواة هذه الأفلام، ذات المستوى الفني المتنوّع، مع أفلام دول أخرى؟ تلك الأفلام هي: "ابن النيل" (1951) و"صراع في الوادي" (1954) ليوسف شاهين، و"الوحش" (1954) و"شباب امرأة" (1956) لصلاح أبو سيف، و"حياة أو موت" (1954) لكمال الشيخ. الجامع بينها، إلى جانب جودتها الفنية والتقنية العالية، خصوصية مواضيعها والأماكن التي تدور أحداثها فيها (صعيد مصر)، وارتباك الصلة بالمدينة، ومفاهيم الثأر والعلاقات المتداخلة بين العائلات. بينما "حياة أو موت" لا ينتمي إلى هذا كلّه، لكنه مُصوَّر بكامله تقريبًا في شوارع القاهرة، مُقدِّمًا صورة قريبة جدًا للمكان، لا تزال لغاية الآن "وثيقة تاريخية" عنه.


بعد مُشاركة 9 أفلام في الدورات الأولى، ومنافستها أفلامًا مختلفة على جائزة "السعفة الذهبية"، اندلعت "حرب 1956" (بين 29 أكتوبر/ تشرين الأول و7 نوفمبر/ تشرين الثاني، شنّت إسرائيل وإنكلترا وفرنسا حربًا على مصر عُرفت بـ"العدوان الثلاثي"، إثر قرار الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، في 26 يوليو/ تموز من العام نفسه)، المؤدّية ـ من بين أمور أخرى ـ إلى قطع العلاقات مع فرنسا، وبالتالي مع المهرجان، طوال 8 أعوام متتالية، لم يشارك خلالها أي فيلم أو أي سينمائي مصري.




خلال تلك المدة الطويلة، تحوّل مهرجان "كانّ" إلى "الحدث السينمائي الأهم في العالم". ومع عودة العلاقة بين مصر وفرنسا إلى عهدها السابق، استعادت السينما المصرية حضورها في المهرجان، فشاركت 3 أفلام في المسابقة الرسمية خلال 7 أعوام: "الليلة الأخيرة" (1964) لكمال الشيخ و"الحرام" (1965) لهنري بركات و"الأرض" (1970) ليوسف شاهين، الذي نال احتفاءً كبيرًا حينها.


لكن "الضربة الحقيقية" التي غيّرت شكل علاقة المهرجان بالسينما المصرية حصلت بعد حرب الأيام الـ6 (5 ـ 10 يونيو/ حزيران 1967)، ثم وفاة عبد الناصر (28 سبتمبر/ أيلول 1970)، وتبدّل سياسات الدولة، التي رفعت يدها عن صناعة الأفلام، فمرّت السينما المصرية في أسوأ مراحلها على الإطلاق، في سبعينيات القرن الـ20، فاتّجه معظم المخرجين الكبار إلى السينما التجارية، أو توقّفوا عن العمل. في الوقت نفسه، لم يظهر جيل جديد يمكن أن يحمل الراية. نتيجةً لهذا التأخّر في الصناعة، وندرة الأفلام المصرية الجيدة، فَقَد مهرجان "كانّ" اهتمامه السابق بالسينما المصرية.


خلال العقود التالية، ومع تغيّر العلاقة من "الندية" إلى "الفتور"، حافظ يوسف شاهين على صلته بـ"كان" (كما بمهرجانات سينمائية كبرى عمومًا)، فعُرضت أفلام عديدة له في دورات مختلفة، وفي برامج متنوّعة (المسابقة الرسمية و"نظرة ما" و"نصف شهر المخرجين"): "العصفور" (1972) و"وداعًا بونابرت" (1985) و"اليوم السادس" (1986) و"إسكندرية كمان وكمان" (1990) و"المصير" (1997) و"الآخر" (1999) و"إسكندرية نيويورك" (2004). كما نال جائزة العيد الـ50 للمهرجان (دورة عام 1997)، بصفته "أحد رموز السينما في العالم". لكن شاهين لم يكتفِ بـ"صفته الشخصية" في علاقته بـ"كانّ"، بل فتح الباب أمام جيل جديد، ساعد مخرجين عديدين منه على عرض أفلامهم فيه، كعاطف الطيب ومحمد خان ويسري نصر الله، فعُرض للأول "الحب فوق هضبة الهرم" (1986)، وللثاني "عودة مواطن" (1986)، وللثالث "سرقات صيفية" (1988).




منذ عام 2004، لم يعرض أيّ فيلم مصري في "كانّ". لكن، مع "ثورة 25 يناير" (2011)، وعودة الاهتمام بالشرق الأوسط، ومحاولة فهم مصطلحات هائمة للغرب مثل "الربيع العربي"، عُرض الفيلم الجماعي "18 يوم" خارج الأقسام الرئيسية، وهو عبارة عن 10 أفلام قصيرة لـ10 مخرجين، بينهم نصرالله نفسه، الذي بفضله عادت السينما المصرية إلى المسابقة الرسمية، بعد 15 عامًا على مشاركة "المصير" لشاهين، مع اختيار المهرجان فيلمه "بعد الموقعة" (2012). ورغم الآراء السلبية التي نالها الفيلم من نقّاد عديدين، إلا أن صلته بالثورة، والرغبة الغربية في فهم ما حدث، كانا "دافعًا أساسيًا" لاختياره.


تلك الدفعة السياسية أيضًا ساهمت ـ غالبًا ـ في اختيار "اشتباك" (2016) لمحمد دياب لافتتاح قسم "نظرة ما": تدور أحداثه داخل شاحنة تابعة لجهاز أمنيّ متخصّصة بنقل المعتقلين، في لحظة مضطربة سياسيًا بعد عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي (3 ـ 30 يوليو/ تموز 2013)، مُسلّطًا الضوء على الصراع الدائر في الشارع المصري بين داعمي مرسي (الإخوان المسلمين)، ومؤيدي الانقلاب العسكري عليه.


هذا كلّه حاصلٌ قبل مُشاركة "يوم الدين" لأبو بكر شوقي في المسابقة الرسمية للدورة الجديدة، التي تُعتبر بمثابة مفاجأة كبيرة، نظرًا إلى كونه الفيلم الأول لمخرجه الشاب، وأيضاً لكونه عملاً لا يتناول الوضع السياسي في مصر.

المساهمون