السادات وما أدراك ما السادات (5)

السادات وما أدراك ما السادات (5)

31 ديسمبر 2015

لحظة اغتيال السادات (6اكتوبر/1981/Getty)

+ الخط -

قطار السادات يصل إلى محطته الأخيرة: المنصة

بعد سنوات قليلة من انفتاح مصر على يد أنور السادات اقتصادياً واجتماعياً، أصبح في مصر حوالي 300 مليونير، طبقاً لإحصائية دولية، ليكرس ذلك مقولة "أن من لم يغتن في عهد السادات، فلن يغتني أبداً". لكن، ولأن العشوائية لا يمكن أن تفضي أبداً إلى نهايات سعيدة، فقد قدّم صندوق النقد الدولي، الذي سمح السادات لنفوذه بأن يتغوّل، طلبات بزيادة أسعار سلع أساسية. وعلى الرغم من اعتراض بعض الوزراء على ذلك، أصدر السادات توجيهاته بتنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي، متصوراً استحالة أن يعترض الشعب على قراراته الهادفة لمصلحة الشعب. لذلك، وافق مجلس الوزراء في 17 يناير/ كانون الثاني 1977 على رفع أسعار 25 سلعة أساسية، لينفجر الشعب غاضباً من الإسكندرية إلى أسوان، في مشهد كان المصريون قد نسوه منذ سنين، حيث لم يكن الشعب يخرج إلى الميادين إلا مؤيداً أو مهللاً أو مطالباً رئيسه بالبقاء، أو باكياً على فراق زعيم، مثلما حدث في جنازة مصطفى النحاس، ومن بعده جنازة جمال عبد الناصر.

فوجئ السادات بالانتفاضة الشعبية التي اضطرته لأن يهرب من استراحته في أسوان، خوفاً من غضب الجماهير، في مشهد كان مفاجئاً ومريراً ومهيناً له، لتزيد مرارة المشهد، حين ظهرت صور عبد الناصر بكثافة في المظاهرات. وعلى الرغم من أن الحكومة اضطرت للتراجع عن قراراتها سريعاً، إلا أن الغضبة الشعبية لم تدفع الفرعون إلى العودة إلى وعيه، بل زادت من ابتعاده عن عموم شعبه، ليصف الانتفاضة بأنها "انتفاضة حرامية"، مركزاً، هو ووسائل إعلامه، على وقائع التخريب التي حدثت في مواقع متفرقة من البلاد. والمؤكد أن السادات، بعد تلك الأحداث، لم يعد كما كان قبلها، لكن أهم تأثيرات الانتفاضة عليه كانت دفعه إلى سيرٍ لا رجعة فيه، في طريق التحالف مع الأميركان والإسرائيليين، بكل ما تطلبه ذلك من تنازلات كلفته حياته في نهاية المطاف.

إلى آخر العالم

بعد أشهر من التعبئة الإعلامية الحاشدة ضد من شاركوا في انتفاضة يناير، رافقتها حملة اعتقالاتٍ لم تشهد لها مصر مثيلاً، منذ أيام عبد الناصر، قام السادات بعمل استفتاء شعبي على مقترحات ديكتاتورية شرسة، اختار لها عنوان "حماية أمن الوطن والمواطنين"، ولم يكن غريباً أن يوافق عليها نسبة 99,42 % من المواطنين. بعدها ذهب السادات لزيارة الرئيس

الأميركي، جيمي كارتر، الذي استقبل، بعد زيارة السادات، رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، مناحيم بيغن، لينقل وزير الخارجية الأميركي، سايروس فانس، في أغسطس/آب 1977 نتائج زيارة بيغن إلى السادات. وبعد لقاءات للسادات مع عدة شركاء له في حلفه الجديد مع أميركا، مثل ملك المغرب الحسن الثاني وشاه إيران، وبعد لقاءات لم تعد الآن سرية، عقدها موشي ديان مع الملك حسين والملك الحسن، تم ترتيب لقاء سري بين ديان والسياسي المصري الغامض، حسن التهامي، ليسافر بعدها السادات إلى رومانيا في 29 أكتوبر/تشرين أول 1977، وكان من أهم أهداف الزيارة سؤال الديكتاتور الروماني تشاوشيسكو وثيق الصلة بإسرائيل عن حقيقة رغبة بيغن في السلام، وليكون لنتائج تلك اللقاءات السرية والعلنية، دور في تشكيل سيناريو الفترة المقبلة في ذهن السادات.

في "البحث عن الذات" يقول السادات إنه تلقى، قبل شهرين من إعلان مبادرته للسلام مع إسرائيل، خطاباً مختوما بالشمع الأحمر من كارتر، لكنه لم يفصح عن مضمون الخطاب الذي وصفه بأنه "شخصي"، نافياً أن الخطاب تضمن طلباً من كارتر للقيام بالمبادرة. وعلى الرغم من أن وثائق أميركية كثيرة تم الإفراج عنها من هذه المرحلة، إلا أني لم أعثر، حتى الآن، على مصدر يتحدث عن مضمون ذلك الخطاب، خصوصاً أنه، فيما أعلم، لا يُسمح للرئيس الأميركي أن يرسل خطابات شخصية إلى رؤساء دول أخرى، من دون إيداع نسخ منها للتوثيق. على أية حال، يحرص السادات على أن يؤكد أن كارتر لم يطلب منه القيام بالمبادرة، لأنه كان يعلم بوجود حاجز نفسي رهيب مع إسرائيل، وصفه السادات بأنه حاجز مرجاني ضخم، يقول السادات إنه لم يفكر في عبوره، إلا بفضل "الموقف النفسي الذي تبلور في أعماق ذاته داخل الزنزانة 54"، والذي أمدّه بقوة وطاقة جبارة، لاتخاذ قرار كسر الحاجز النفسي، والتفكير في زيارة إسرائيل، قائلاً إنه حين أعلن تفكيره لوزير خارجيته، إسماعيل فهمي، "لم تستطع أعصابه تحمل المبادرة واستقال.. مسكين"، لكن السادات لم يقل بالطبع إن إسماعيل فهمي لم يكن "المسكين" الوحيد الذي رفض تلك المبادرة المنفردة، التي كشفت الأيام سريعاً أنه لم يستفد منها أحد بقدر ما استفادت إسرائيل، والتي لم يثبت أبداً أنها غيرت من تشددها وتعنتها مع السادات والمفاوض المصري، ولو من باب رد الجميل للمبادرة الساداتية التي منحتها تنازلاتٍ كثيرة مجاناً.

كان السادات يفكر في دعوة خمسة رؤساء كبار، هم كارتر وبريجنيف وديستان وكالاهان

وهواكوفينج، ليشاركوه زيارته إسرائيل، والتي قرر أن تكون في عيد الأضحى، ليصلي في المسجد الأقصى، ثم يزور كنيسة القيامة، لكنه وجد فكرة حضور الخمسة الكبار صعبة، فقرّر أن يقوم بالزيارة وحده. وفي خطاب له في مجلس الشعب، يوم 9 نوفمبر/تشرين ثاني 77، أعلن أنه مستعد للذهاب إلى آخر العالم حتى إلى الكنيست "إذا كان ذلك سيحقق أهدافنا"، وصفق جميع الحضور، وكان من بينهم القائد الفلسطيني ياسر عرفات، على أساس أن ما قاله السادات ليس سوى مبالغة خطابية، وبعدها مباشرة، وحين زار السادات سورية، سأله حافظ الأسد عن تفسير لما قاله في خطابه، ليفاجئه السادات بأنه كان يعنيه بالفعل، وتدور بينهما مناقشة دامت أربع ساعات، خرج منها الطرفان وهما مستعدان لقطيعة كاملة.

ذهب السادات إلى إسرائيل مختاراً لزيارته يوم وقفة عرفات، من دون أن يستجيب لنصائح من طالبوه باختيار يوم آخر، لكيلا يستفز مشاعر العرب والمسلمين في يوم كهذا بالذات، لأن السادات كان قد حدد هدفه جيداً. ولذلك، كان مشغولاً أكثر بمتابعة تغطيات التلفزيونات الأميركية والأوروبية التي تابعت زيارته خطوة بخطوة. كان السادات مبهوراً باستقبال الإسرائيليين له، وبردود أفعال الإعلام الغربي المنبهرة بزيارته. لذلك كان رجاله في مصر حريصين على حشد أكبر عدد ممكن من المؤيدين والمهللين، ليكونوا في استقباله، بعد عودته من إسرائيل، لأن السادات كان قد أخبر بعض مساعديه أنه لو أحس بوجود رفضٍ شعبي لما قام به فسيتوجه إلى مجلس الشعب، ويقدم استقالته، وعلى الرغم من أن عدد الجموع "المحشودة" لاستقبال السادات كان أقل بكثير من عدد الجماهير التي احتشدت، مراراً وتكراراً، لتحية السادات بعد نصر أكتوبر المجيد، إلا أن الإعلام الرسمي تبنى نظرية أن من خرج لاستقبال السادات كان خمسة ملايين مواطن، وهو عدد لم يخرج، مثلاً، في جنازة عبد الناصر التي يجمع كل الباحثين أنها كانت أكبر حشد بشري شهدته القاهرة في تاريخها المعاصر، منذ جنازة سعد زغلول.

بالطبع، صدّق السادات نظرية إعلامه عن الحشد غير المسبوق، فكتب في "البحث عن الذات" فخوراً بثقته التي لم تخب في شعبه "فقد خرج خمسة ملايين مواطن من بين الملايين الثمانية الذين يعيشون في القاهرة لاستقبالي عند العودة"، قبل أن يسجل امتنانه في الفقرة التالية للقائد العربي الوحيد الذي سانده في موقفه، الرئيس السوداني جعفر نميري الذي زاره فور عودته من إسرائيل، وكان الوحيد الذي زاره من قبل في أعقاب "ثورته للتصحيح"، ما جعل السادات شديد الامتنان له، وهو امتنان بدا أنه متبادل مع نميري الذي كتب كتابا كاملا بعنوان "السادات المبادئ والمواقف". وأذكر أنه كان فخوراً جداً بذلك الكتاب الذي يكشف تأثره الشديد بالسادات، في طريقة تعامله مع المعارضة وتوظيفه الخطاب الديني، حين سألته عنه في لقاء معه في القاهرة عام 1998، بصحبة الزميل حمدي رزق، في حوار قمنا به ضمن سلسلة حلقات تسجيلية عن القضية الفلسطينية لم تذع للأسف، وكان نميري وقتها يعيش منفياً عن السودان، في بيت خصصته له الرئاسة المصرية في مصر الجديدة، وقد كان حواراً هادئاً انتهى نهاية عاصفة، حين سأله حمدي رزق عن دوره في عملية تهريب يهود الفلاشا إلى إسرائيل، وهو الدور المشبوه الذي كان من أبرز أسباب خروجه مصحوباً باللعنات من موقعه رئيساً أزلياً للسودان.

"القدس في جيبي"

بعد أن عاد السادات من زيارته إسرائيل، قال لأحمد بهاء الدين: "إنني أرثي لكم جميعاً، لم يعد

لديكم ما تقولونه أو تكتبونه، لقد فقدتم الموضوع الذي عشتم عليه سنوات طويلة". وعندما سأله بهاء عن القدس، قال له " القدس في جيبي" (انظر كتاب "محاوراتي مع السادات" لأحمد بهاء الدين الذي يكشف علاقة السادات المركبة ببهاء الدين، وبالمثقفين المصريين بشكل عام). وللأسف، تصرف السادات بهذا المنطق المفرط في الثقة بشكل غريب، خلال رحلة مفاوضاته مع إسرائيل، والتي بدأت بوفد مصري سافر إلى القدس، ثم تواصلت في مؤتمر مينا هاوس الفاشل، ثم مؤتمر الإسماعيلية الأشد فشلاً. وللأسف، تصور السادات أنه حين يترك مقاعد الفلسطينيين خالية في المؤتمر، يمكن له أن ينفض يديه بسهولة من التزامه السياسي بالقضية الفلسطينية، مستغلا حالة الزهق في الشارع المصري من الحروب والصراعات، والتي جعلت نسبة كبيرة من المصريين توافق على فك الارتباط بين السياسة المصرية ومطالب الشعب الفلسطيني، من دون أن تتاح، في وسائل الإعلام، فرصة لأي صوت معارض يحذر من خطورة ذلك على المصالح الاستراتيجية المصرية، أو حتى ينبه بشكل براغماتي بحت، إلى أن مصر يمكن أن تستخدم الحقوق الفلسطينية ورقة ضغط على إسرائيل لضمان المصالح المصرية، من دون حتى التركيز على الالتزامات الأخلاقية والوطنية، والتي كان الرأي العام، ببركات إعلام التعبئة، قد بدأ التعامل معها بوصفها كلاماً إنشائياً، لا يردده إلا المعتوهون، أو المأجورون كارهو الخير لمصر.

قرّر السادات، في هذه الفترة الدقيقة، أن يعين في منصب وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل، رفيقه القديم في قضية اغتيال أمين عثمان، والغريب أنه أراد أن يتم حلف يمين إبراهيم كامل في حضور بيغن، ليرفض محمد إبراهيم كامل ذلك الطلب الغريب، الذي لم يكن ممكناً أن يحدث بين دولتين تنتظرهما مفاوضات شرسة، وثبت كامل على موقفه، حتى استجاب له السادات، لتبدأ رحلة المفاوضات الطويلة والشرسة، والتي أسفرت عن اتفاقية كامب ديفيد، والتي لم يستطع محمد إبراهيم كامل قبولها، على الرغم من علاقته التاريخية مع السادات، ومن قبوله مبدأ التفاوض مع الإسرائيليين. لذلك استقال في 16 سبتمبر/أيلول 1978، قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بيومين، لأنه لم يتحمل ما جرى فيها من تنازلاتٍ خطيرة، وصفها بأنها كانت "مذبحة التنازلات"، وهو ما سجله بالتفصيل في كتابه المهم "السلام الضائع في كامب ديفيد"، الذي يؤكد، في مقدمته، أن ما شاهده خلال عمله مع السادات عشرة أشهر كان بعض أحداثه "أغرب من الخيال"، وهو كتاب يصلح رداً على كل من يتهم معارضي "كامب ديفيد" بأنهم أعداء السلام، لأنه يكشف أن ما جرى في "كامب ديفيد" لم يكن سلاماً، بل  استسلاماً مهيناً للغطرسة الإسرائيلية. وأتمنى أن يكون لنا وقفة مع هذا الكتاب المهم بإذن الله، الذي ستجد في قراءتك له أجواء المباحثات المصرية في أزمة سد النهضة، وهي ماثلة أمامك، لتدرك كيف يجني حكم الفرد على حقوق الشعوب، حتى وإن زعم أنه يحفظ حقوقها ويصون مصالحها.

ديمقراطية الأنياب

لم يكن ممكناً أن يحمي السادات بقاء التنازلات الخطيرة التي قدمها للإسرائيليين والأميركان،

من دون أن يتبع داخل البلاد سياسة ديمقراطية المفرمة، المستمدة من عبارتيه الشهيرتين "حافر مهم بالديمقراطية"، و"الديمقراطية لها أظافر وأنياب"، وقد كان من أبرز دعائم تلك السياسة قانون العيب الذي فصّله ترزية القوانين على مقاس السادات، لتأديب معارضيه عن طريق منصب المدعي العام الاشتراكي، الذي كان السادات قد استحدثه في 1971، وظل محتفظاً به في عز سياسات الانفتاح، وحافظ عليه من بعده لفترة خليفته حسني مبارك. وكان من أبرز الذين أحيلوا إلى المدعي العام الاشتراكي عقب المبادرة، حليف الأمس، محمد حسنين هيكل، الذي سجل وقائع التحقيق معه في كتاب كامل، كان تدشيناً لبدء مرحلة إعلان عدائه المكتوب مع السادات، ووصلت إلى ذروتها في كتابه "خريف الغضب".

كان السادات حريصاً على ألا يظهر أمام حلفائه الجدد في الغرب ديكتاتوراً يطبق سياسات عدوهم اللدود عبد الناصر نفسها. ولذلك، حرص على إضفاء شكل ديمقراطي على الحياة السياسية، فقرّر تشكيل ما أسماها المنابر السياسية الثلاثة: اليمين والوسط واليسار، والتي سرعان ما حولها بنفسه إلى أحزاب، مقرراً أن يرأس أحدها، وهو حزب مصر العربي الاشتراكي، قبل أن يقرّر فجأة تشكيل حزب بديل، اسمه الحزب الوطني الديمقراطي، ليهرول خلفه الآلاف من أعضاء الحزب القديم إلى الحزب الجديد، بعد أن ظلوا قبلها سعداء بعضويتهم في الاتحاد الاشتراكي، ومن قبله في الاتحاد القومي. ومع ذلك، بقي بعضهم متمسكين بعضوية حزب مصر العربي الاشتراكي القديم، الذي ظل نكتة سياسية قائمة حتى نهاية التسعينات، خصوصاً حين رفع رئيسه جمال ربيع قضية على الحزب الوطني، يتهمه بالاستيلاء على مقار الحزب وممتلكاته، وهي قضية ظلت منظورة في المحاكم سنين طويلة.  

كان لدى السادات تصور خاص جداً لدور القانون في الدولة، فقد كان حريصاً جداً على أن يكون كل ما يقوم به من إجراءات مطابقاً للقانون، وأن يتم ابتداع ذلك القانون، إنْ لم يكن موجوداً. ولذلك، نراه يقول لأعضاء مجلس الشعب على الملأ "كل شيء هيتم بالقانون، وإذا لم يعجبني القانون سألجأ إليكم لتغيروه". وبالتالي، لم يكن غريباً أن يتم إسقاط العضوية عن أربعة من أبرز أعضاء مجلس الشعب، حين رفضوا السير على هوى السادات، وهي القضية التي تحدث عن تفاصيلها المهمة الكاتب جمال سليم في كتاب "ديكتاتورية السادات". وعلى الرغم من أن القضية أصبحت جزءاً منسياً من التاريخ النيابي، إلا أن طريقة تعامل السادات فيها مع معارضيه، ظلّ ولا يزال باقياً، ولا يمكن أن تفصل تلك الطريقة، مثلا، عن أداء زكي بدر وزير داخلية مبارك، الذي أنهى خطابه أمام مجلس الشعب بآية قرآنيةٍ، أعقبها بعباراتٍ حافلة بالشتائم، قبل أن يشتبك في معركة بدنيةٍ مع نائب وفدي معارض، وينتهي الأمر بمعاقبة النائب المعارض، وخروج الوزير منتصراً، بعد أن أظهر الدولة بمظهر القوي الذي لا يأبه لأحد، حتى وإنْ كان يزعم أنه ممثل للشعب.

في تلك الفترة، ومن أجل الظهور أمام الغرب بمظهر الرئيس الديمقراطي، لجأ السادات إلى

لعبة الاستفتاءات الموجهة والمشكومة، ليمنح كل قراراته السلطوية شرعية شعبية. خذ عندك مثلا استفتاء 10 فبراير/شباط 1977، الذي أعقب مظاهرات شعبية عارمة هزّت نظام السادات بقوة. ومع ذلك، جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة للقوانين الأمنية القمعية بنسبة 99,43%، أما استفتاء العزل السياسي فجاءت نتيجته مؤيدة للعزل بنسبة 98.27%، وكانت نتيجته حل حزب الوفد نفسه، أما الاستفتاء على معاهدة كامب ديفيد، في إبريل/نيسان 1979، فقد جاء مؤيداً المعاهدة بنسبة 99.93%، في الوقت الذي كان الشارع المصري فيه يغلي برفض عنيف للمعاهدة، جعل الأجهزة الأمنية في حالة استنفار دائم، وألقى مئات الطلبة والعمال والسياسيين في السجون، ودفع الآلاف إلى الهجرة خارج البلاد، بعد أن تم قطع أرزاقهم داخلها بسبب انتماءاتهم السياسية، بل وبسبب انتماءات أقاربهم السياسية. ومع ذلك، كانت وطأة القمع الساداتي أخف بكثير من وطأة القمع الناصري، فلم تصدر في عهده أحكام إعدام مثلا، ولم تصل أعداد المعتقلين إلى عشرات الآلاف، كما أنه جعل أبواب البلاد مواربة لمن يرغب في السفر منها.

أعداء جدد

لم يكن السادات يدرك، وهو يحكم سيطرته الأمنية على البلاد، أنه بصدد مواجهة عدو جديد، كان حليفاً قوياً له قبل سنوات، حين لجأ إليه لضرب اليساريين والناصريين الذين كانوا أخطر أعدائه في بداية حكمه. أتحدث، بالطبع، عن تيارات الشعارات الإسلامية المختلفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التي أخرج السادات، في بداية حكمه، قادتها وقواعدها من السجون، وسمح بعودة أعضائها المنفيين إلى الخارج، وسمح بإصدار مجلة "الدعوة" الناطقة باسم الجماعة، بل وتم افتتاح مكتب الإرشاد بشكل غير رسمي في قلب القاهرة. لكن غاب عن السادات أن الجماعة لم تعد المسيطر الوحيد على ساحة "العمل الإسلامي"، كما كان الحال عليه في عهد عبد الناصر، فقد خرج من السجون أيضا مئات الشباب الذين تعرّضوا للتعذيب الوحشي في سجون عبد الناصر، ووقع الصدام بينهم وبين قيادات "الإخوان" الأكبر سناً، لتتشكل بعد خروج هؤلاء جماعات إسلامية جديدة، كان أقواها تأثيراً يقع في محافظات الصعيد، وقد حاول السادات ترويض هذه الجماعات، في البداية، عن طريق رجله المقرب محمد عثمان إسماعيل، (اقرأ حواره المهم مع عاطف عبد الغني، في كتاب محمد عثمان إسماعيل يتذكر).

كان تحالف السادات مع "الإخوان" قد تم بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السرية والمسلحة، والتي كان النظام يظن أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سرية وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري. وبالطبع، كانت تقارير الأجهزة الأمنية التي ترفع للسادات تصور له، دائماً، أن الشارع تحت السيطرة، لأنه لم يعد يشهد مظاهرات طلابية أو عمالية، لكنها، في الوقت  نفسه، استغلت إفشالها أكثر من محاولة اغتيال تستهدفه، لكي تحكم سيطرتها على تفكيره، وتزيد من عزلته عن الشارع، وهو ما أفقده ما كان قد تبقى لديه من مرونة سياسية، كانت دائماً تحير خصومه وأصدقاءه.

دولة الرئيس المؤمن

كان هيكل متحاملاً على السادات في مواضع عدة من كتابه "خريف الغضب"، لكنه كان دقيقاً

للغاية، حين وصف بداية سنة 1981 بأنها كانت الفترة التي أصبح السادات خلالها في عزلة كاملة عن الحقائق المحيطة به، ولأن السادات، على حد تعبير هيكل، كان قد جعل من نفسه محوراً لكل شيء في البلاد، فقد كان طبيعياً أن يصبح هدفاً للغضب من كل شيء في البلاد، وهو الخطأ نفسه الذي كرّره من بعده حسني مبارك، ويكرّره الآن عبد الفتاح السيسي (آخر الحكام المستفيدين من دعم هيكل؟). ولعلنا، في ضوء هذا، يمكن أن نقرأ تعجب بعض أنصار السيسي من سر مهاجمته ولومه على تصرفات خاطئة في هذا القطاع أو ذاك، ناسين أنهم من أسبغوا عليه، منذ البداية، صفات أسطورية تصوره قادراً على حل كل أزمات البلاد، وأنه من خنق المجال السياسي، وقام بتركيز كل السلطات في يديه، بدعوى التكاتف من أجل الحرب على الإرهاب. ولذلك، أصبح طبيعيا أن يلومه الناس على فشله في حل الأزمات الجديدة والقديمة.  

على المستوى الخارجي، لم يكن السادات على استعداد للاعتراف بأن إسرائيل لم تقدّر مبادرته حق قدرها، على الرغم مما أسدته لها المبادرة من خدمات سياسية جليلة، وأن الأميركان لم يعد لديهم استعداد للضغط على إسرائيل، لكي تعطي السادات ما يرغب فيه، وأن مصر أصبحت في عزلة كاملة عن المحيط العربي الذي لا يمكن أن تحيا من غيره، مهما حاول الإعلام العنصري أن يبالغ في هجاء العرب ومديح الوطنية المصرية، لأن هذه سنة الحياة وطبائع الأشياء، فلا يمكن لدولة أن تحيا بسلام من دون علاقات طيبة مع جيرانها، حتى لو كانوا مختلفين عنها في الدين واللغة، فما بالك ونحن نتحدث عن مصر التي كانت تملك رصيداً معنوياً مرتفعاً لدى العرب، كوّنته على مدى عقود عديدة، وساهم فيه زعماء بحجم سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر، وأدباء وفنانون ومثقفون، يضيق المجال عن ذكر أسمائهم، لكن ذلك الرصيد تبدد، بشكل مؤسف، في عهد السادات، ومن دون حتى أن تحصل مصر من حلفائها الجدد على مقابل يعوّضها عن ذلك، وهو ما أدركه حسني مبارك الذي أتى به السادات خليفة له فيما بعد، وحاول تغييره.

على المستوى الداخلي، كانت شخصية الفرعون قد تلبست السادات بشكل مخيف، لتصبح تعبيرات "شعبي وجيشي وبلادي" التي كان يطلقها في خطاباته وحواراته معبرة بدقة عن طريقة "أنا الدولة" الشهيرة في حكم البلاد، وهو ما يمكن قراءته في كل تصرفات السادات في تلك الفترة، كتقديمه آثاراً مصرية هدايا لأصدقائه من رؤساء الدول، يذكر هيكل قائمة كاملة لها في كتابه. وبالطبع، لم يفتح أحد ملف هذه الهدايا بعد رحيل السادات، للمطالبة باستردادها، بوصفها ملكاً للمصريين، وليس لرئيسهم أياً كان، بدا ذلك أيضاً في اهتمامه المبالغ فيه بتجديد قصوره والإنفاق عليها، وتفننه في اختراع مناسبات، والإدلاء بأفكار تسلط الأضواء العالمية عليه، كأن يعلن مثلاً عن فكرة بناء مجمع للأديان في سيناء، أو فكرة مد مياه فرع من النيل لتكون هدية لإسرائيل، ووصل به الأمر إلى أن يشن حرباً كلامية على إثيوبيا، حين أبدى بعض مسؤوليها اعتراضا على الفكرة، وهو بالطبع ما لن تقرأه بكثافة الآن، على عكس الأكاذيب التي ستقرأها كثيرا، والتي تروجها صفحات على الإنترنت معروفة بعلاقتها بالأجهزة الأمنية، حيث تدّعي أن السادات ضرب مشروع سد أثيوبي بالطائرات، وهي معلومة يعرف كل متابعي ملف العلاقات المصرية الأثيوبية أنه لا أساس لها من الصحة. 

في يونيو/حزيران 1981، انفجرت أسوأ حوادث الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء، بعد أن شهدت البلاد مناوشات طائفية متفرقة ومتصاعدة، لا يمكن فصلها عن مناخ اللعب بالدين الذي بدأه السادات، حين سمح لإعلامه أن يطلق عليه لقب "الرئيس المؤمن" قائد دولة "العلم والإيمان"، وحين سمح لمنابر المساجد بأن تنطلق مؤيدة له، قبل أن تنقلب عليه، وتصبح لاعنة له، ويصبح خطباء مساجد، مثل الشيخ كشك والشيخ المحلاوي والشيخ عيد، أبرز معارضي السادات، بعد أن تم خنق أصوات المعارضين السياسيين من "الوفد" إلى "العمل" إلى "التجمع" إلى "الإخوان". جاءت معالجة السادات أحداث الزاوية الحمراء لتزيد الطين بلة، حيث واصل مواجهاته اللفظية العلنية مع البابا شنودة، الذي كان الواقع الجديد لدولة العلم والإيمان، قد سمح بتحوله من رمز ديني للأقباط إلى ممثل سياسي لهم، وهو الوضع الخطير الذي تكرّس أكثر في عهد مبارك، ولا يزال قائماً.

لم يعد السادات قادراً على تحمل أي نقد، حتى من أصدقائه في الإعلام الغربي، إلى درجة أنه قال، مرة، لصحفي أجنبي "لولا الديمقراطية لضربتك بالرصاص". عاد السادات خائب الأمل من رحلة غير موفقة إلى أميركا، حيث لم يجد التفاهم الذي كان يرغب به مع الرئيس الجديد رونالد ريغان، ليعلن في سبتمبر/أيلول 1981 حملة اعتقالات واسعة لأهم المثقفين والسياسيين المصريين من كل الاتجاهات، قائلاً في خطابه أمام مجلس الشعب إن ما فعله كان ضرورياً لحماية وحدة البلاد وأمنها، ولكي لا يغير الله له عادة، فقد قام بعمل استفتاء على اعتقاله حوالي 1536 سياسي وصحفي، وإغلاقه ستة مجلات وصحف، ونقل 65 أستاذا جامعيا و63 صحفيا إلى وظائف أخرى، وإلغاء تعيين البابا شنودة، وحل جمعيات الدينية، وبالطبع، كانت نتيجة الاستفتاء تأييد تلك القرارات بنسبة 99.51 %.

كان ذلك كله غيضاً من فيض ما قام به السادات في أعوامه الأخيرة، من إجراءات صدامية مع كل التيارات والأحزاب، ليثبت أن ما كان ينادي به السادات، في بداية حكمه، من دعوات إلى الحرية والديمقراطية، لم يكن سوى غطاء قشري، لم يكتب له أن يدوم طويلا، لتصل البلاد، في نهاية العقد الذي حكمها فيه، إلى حالة من الغليان، جعلت كثيرين يتوقعون أن يتولد الضغط الساداتي عن انفجار شعبي، يتضاءل إلى جواره انفجار 18 و 19 يناير 1977، لكن اغتيال السادات على يد خالد الإسلامبولي وإخوانه نزع فتيل ذلك الانفجار الشعبي المرتقب، والذي كان يمكن أن يكون في مصلحة مصر، لأنه كان يمكن أن يعلن، بشكل قاطع، فشل الحلول الأمنية العقيمة، ويؤكد حاجة البلاد إلى عقد سياسي واجتماعي جديد، ليضع ذلك زمام المبادرة في يد القوى السياسية التي قمعها السادات، والتي كانت تحوي عدداً مهماً من الكفاءات النادرة، كان يمكن أن تساهم في تغيير أحوال مصر، لكن اغتيال السادات، في رأيي، أتاح فقط التخلص من شخصه، ليفرح بذلك قصار النظر الذين قنعوا بنشوة الانتقام، لكنهم نسوا أن اغتيال السادات أدى إلى الإبقاء على نظامه وأفكاره وسياساته، لتستمر في إفساد حياة المصريين، بل ويضيف كل خليفة له لمسته الخاصة في الإفساد، ولمسته الخاصة في الاستبداد، ويصبح حالها كما لا يخفى عليك.

في الأسبوع بعد المقبل:

حوار شامل مع جيهان السادات عن مسيرة السادات وسيرته. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.