الحصاد المرّ للشعبوية

الحصاد المرّ للشعبوية

11 اغسطس 2020

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

غالبا عندما تنهار الأنظمة الاستبدادية، وتفشل النخبة السياسية الجديدة في حل الأزمات المتراكمة، والتي تجد جذورها أساسا في الخيارات الرسمية للدولة، ومنوال التنمية الذي كان سائدا قبل الانتقال الديمقراطي، يتوجه الناس إلى البحث عن حلول سحرية تتجسّد غالبا في القوى والشخصيات الديماغوجية أو الشعبوية، وفي أحيان أخرى يحاولون العودة إلى الماضي، والبحث عن طاغية جديد، معتقدين أن بإمكانه اجتراح المعجزات، لتختفي الأزمات، كما لو كانت بسحر ساحر، غير مدركين، للأسف، أن الزمان لا يعود إلى الوراء، وأن زمن المعجزات قد انقضى، وأنهم أضافوا إلى أثقالهم زيادة على أحمال الفقر والجهل والتخلف حملا أشد هو نير الاستبداد.
شهدت أميركا اللاتينية، في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، انهيارا للأنظمة العسكرية بعد حصول مصالحات بين الأنظمة والأحزاب اليسارية المعارضة، ولكن الأزمات الاقتصادية والفساد استمرّت تجثم على هذه الدول التي عرفت حينها موجة لصعود شخصيات شعبوية، استفادت من الوضع، لتصل إلى الحكم، ومن هذه النماذج نجد ما جرى في الإكوادور. سنة 1996 صعد إلى الرئاسة رئيس من أصل عربي، اسمه عبد الله خايمي بوكرم. استغل الرجل الأزمة الاقتصادية ورفع شعارات شعبوية، ورقص مع الناس في الشوارع، وسكب المشروب الوطني على صدره وهو يرتدي التبان القصير، وصلى في الكنائس، وزار السكان الأصليين في أحيائهم. وفي بلد عدد سكانه 12 مليون نسمة، ولديه ثروة نفطية، ولكنه يعاني من فساد الساسة، ومن التدخل الأميركي، ومن الفقر المنتشر. كان من الطبيعي أن يتفوق عبد الله على خصومه، ويصل إلى كرسي الحكم. لم يقدم الرئيس الذي حمل لقب المجنون برنامجا، واكتفى بتقديم خطابٍ داعب فيه مشاعر الفقراء، وبهم وصل إلى أعلى هرم السلطة. بعد ثمانية أشهر من الحكم، انكشف الجانب اللّاسوي للرئيس بوكرم. كانت قراراته المتناقضة وتصرّفاته السياسية اللاعقلانية توحي بأنه بصدد تخريب ما بقي من الدولة. وهكذا اجتمع المؤتمر الوطني الإكوادوري (البرلمان)، وقرّر عدم أهلية الرجل للحكم، ففرّ هاربا إلى بنما، ليتم اكتشاف قضايا اختلاس وسوء تصرّف متعلقة بذمته (لا تزال تلاحقه).

 في تونس، تمسك الرئيس بلعبة الأواني المستطرقة في العلاقة بين مواقع السلطة الثلاثة، مجلس النواب، والرئاسة، ورئاسة الحكومة

بعد سقوط الرئيس المجنون، جاءت الانتخابات الموالية سنة 1998، وظهرت شخصية شعبوية أخرى، هذه المرة هي جميل معوض، وهو أيضا من أصل عربي. أستاذ جامعي يتولى تدريس الاقتصاد في جامعة العاصمة كيتو الوطنية، قدّم نفسه بوصفه يمثل توجها جديدا من خارج النخب الحزبية، حيث لا ينتمي إلى اليمين أو اليسار، ولا تاريخ حزبيا له، وتشاع عنه نظافة اليد. وضعت الأقدار الأستاذ الجامعي في مواجهة رجل أعمال فاسد ومشبوه، هو الملياردير ألفارو نوبوكا، واستطاع جورج جميل معوّض تحقيق الانتصار. وبعد توليه الرئاسة، بدأت المشكلات تتفاقم، وكان واضحا أن الرئيس لا يميز بين النظريات الاقتصادية التي كان يدرّسها للطلاب وإيجاد حلول لمشكلات واقعية، يتخبط فيها عموم الناس الذين منحوه أصواتهم، وهم في غالبهم من الفقراء ممن لا يجدون ثمن وجبة واحدة. وتسببت قرارات الرئيس في المجال الاقتصادي في أزمةٍ حادّة، ما أثار الرأي العام ضده. وعوضا عن أن يتخلى الرئيس عن نظرياته ورغبته في استمالة الجيش والشرطة لفرض تلك التصورات الطوباوية على الشعب، أصر على التمسّك برأيه، لينتهي الأمر بخروج الذين أيدوه إلى الشارع مطالبين بسحب الثقة منه، وكان من شعاراتهم يومها "نريد رئيسا لا أستاذا جامعيا". وبعد أقل من سنتين من الحكم المضطرب، تدخلت القوات المسلحة لتطيح الرئيس معوّض، وتسلم الحكم لنائبه غوستافو نوبوا، ولتعود الدائرة الجهنمية في الانتقال من حكم الشعبوية إلى حكم الاستبداد. وكان درسا قاسيا وثمنا باهظا لتجارب الشعبوية السياسية التي لم تجلب إلا الكوارث.
الأزمات ذاتها تتكرّر، وتفضي إلى نتائج متشابهة وكوارث متماثلة، لكن الشعوب لا تتعلم من تجاربها، فضلا عن أن تستفيد من تجارب غيرها. وما يجري اليوم في تونس فيه إحالة إلى نموذج مماثل، بصعود رئيس إلى الحكم من دون برامج أو خطط أو تصور واضح للحكم. ومن خلال تمسكه بلعبة الأواني المستطرقة في العلاقة بين مواقع السلطة الثلاثة، أعني مجلس النواب والرئاسة ورئاسة الحكومة، والتشبث بالشكليات الدستورية، من دون سعي إلى التواصل مع كل ممثلي الطبقة السياسية والمنظمات الاجتماعية للخروج من الأزمة. وفي مقابل هذا المسار، ينمو توجه آخر يمثله أنصار نظام الاستبداد السابق، حيث يبذلون ما في وسعهم لتدمير المسار الديمقراطي، مستغلين الديمقراطية ذاتها أداة للهدم. وإذا كان من الطبيعي أن تنطوي الممارسة الديمقراطية على مخاطر سوء استخدامها، أو صعود من لا يؤمن بها أصلا، فإن هذا لا يعني ترك المجال فسيحا للفوضى، أو للعودة إلى مربع الاستبداد الذي عانى الشعب التونسي طويلا للتحرّر منه، وهو بالقطع لن يقبل العودة إليه تحت أي مبرّر.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.