الأمانة السينمائية: محاباة حواجز الواقع

إدريس إلبا في دور نيلسون مانديلا (Imdb)
16 يوليو 2020
+ الخط -

رغم الكَمّ الإنتاجي الهائل، المُقدَّر بالآلاف، لأفلام السِيَر الحياتية، بدأ إنتاج هذا النوع السينمائي بالتدفّق بعد منتصف ستينيات القرن الماضي. ونظراً إلى النجاحين الجماهيري والنقدي، اللذين حازت عليهما تلك الأفلام، انتشر هذا النوع بكثرة. الآن، لا يكاد يمرّ عامٌ واحد من دون أن تخلو دور عرض أغلب دول العالم منه، المنطلق أساساً من الذاتيّ أو الخاص إلى العام والجماهيري.

أسباب الانتشار مع غزارة أفلام السِيَر الحياتية المُنتجة عاماً تلو آخر، وتنوّعها، وفي مقدّمتها تلك التي تُنجزها هوليوود، لن يكون تحديد عددها بدقّة سهلاً. لكنّ العدد غير مهمّ، فالأهمّ كامنٌ في مُبرّرات صعود تلك الأفلام وانتشارها، ثم فرض نفسها على الإنتاجات السينمائية المتنوّعة. هل هناك أسباب لهذا الانتشار، ولتجاوز الأفلام حدود بلد وقارة الإنتاج، ومخاطبتها بلداناً وشعوباً وأمماً أخرى؟ هل الأمور معقودة فقط على ذائقة الجمهور أو النقّاد أو الترشيحات والجوائز، التي باتت تلك الأفلام تحظى وتُتوَّج بها مُؤخّراً؟ يصعب حصر الأسباب والمبرّرات في نقاطٍ محدّدة. لكنْ، يمكن رصد الجلي منها. فبغض النظر عن التقييم النقدي والجوائز، هناك أولاً الإقبال الجماهيري الكبير على هذا النوع السينمائي، وتحقيق الأفلام إيرادات تجارية مضمونة. فهل الإقبال الجماهيري والربح التجاري دافعان رئيسيان إلى إنتاج مستمرّ لتلك الأفلام؟ للعامِلَين دور كبير بالتأكيد، يُضاف إليهما الدور المهمّ الذي تُوظَّف من خلاله أفلام السِيَر الحياتية. عادة، تُستخدم تلك الأفلام كأداة تحريضية أو تحفيزية للمُشاهدين، ولتمرير رسائل صريحة أو خفية، سياسية أو اجتماعية ودينية، بالعزف على مشاعر الجمهور ونفسيّته، الذي يتماهى عادة مع الشخصية المُقدَّمة سينمائياً. لذا، لا تكتفي تلك الأفلام بالتأريخ والرصد والسرد التسجيلي، متّخذة من الإطار العام، المُقدَّمة في سياقه الشخصية الفيلمية، ركيزةً لطرح ومناقشة قضايا عامة ورسائل ضمنية كثيرة، في إطار الرؤية الفنية للسيناريست أو للمخرج، وللغرض الرئيسي من الفيلم.

لكنْ، لماذا لأفلام السِيَر الحياتية تحديداً هذا التأثير الكبير، مُقارنة بغيرها؟ مردّ ذلك عائدٌ إلى سمة أساسية تميّز تلك الأفلام وتمنحها قوّة هائلة، تكمن (السمة) في أنّ الشخصيات الرئيسية غير مُتخيّلة، بل لها جذور ملموسة في الواقع، القريب أو البعيد. وهذا يختلف تماماً عن الأفلام ذات الطابع الخيالي، وإنْ استندت الدراما فيها إلى أحداث واقعية أو تاريخية.

المثير أكثر في هذا النوع السينمائيّ أنّ الجمهور يُصدّقها تماماً، من دون أدنى شكّ فيها أحياناً، نظراً إلى استبعاده المُسبق توظيف أي قدر من الخيال أو الافتعال، وافتراض الأمانة التامة في نقل الأحداث والوقائع والشخصيات المُقدَّمة. هنا تكمن إحدى صعوبات هذا النوع السينمائي، أي المُقارنة مع الواقع، الذي يُعدّ من أهم معايير تقييم العمل. لذا، يجد المخرجون أنفسهم مطالبين دائماً، أكثر من غيرهم، بإعادة رواية قصّة مُكرّرة أو معروفة، أو إعادة تقديم شخصية، وفي الوقت نفسه إثارة فضول المُشاهِد وتأجيج شغفه وإمتاعه، وإشعاره بأنّه يُشاهد أحداثاً أو شخصية للمرّة الأولى، إلى المُطالبة بفرادة النظرة الفنية، واختلاف زاوية الرؤية، والانتباه الشديد إلى التفاصيل. أعباء وتنويعٌ في المقاربات يحاول مخرج الفيلم وكاتبه، قدر الإمكان، عدم الاصطدام كثيراً بحواجز الواقع، أو الالتزام به بأمانة شديدة، وبلوغ أقصى حدّ من الإبداع والخيال والحرية.

يبرز هذا، مثلاً، في التوغّل أكثر في أعماق الشخصية وحياتها، والبحث في أدقّ التفاصيل والجوانب، ربما إلى درجة المُبالغة، وأحياناً عدم التقيّد بتناول الحياة الكاملة للشخصية، أو الاهتمام بجزء من حياتها فقط، وربما يقتصر هذا الجزء على مرحلة معيّنة، تكون فارقة، أو عام واحد حاسم، أو تكثيف الأحداث، أو اختصار الأعوام أو دمجها. وأيضاً، عدم الاكتفاء بتناول الشخصية في إطار أو سياق عام، سياسي أو اجتماعي أو تاريخي. يتجلّى هذا في تناول شخصية سياسية معروفة كنيلسون مانديلا، الذي قُدِّمت سيرته في أكثر من فيلم.

في "وداعاً بافانا" (2007) لبيلي أوغست، تظهر علاقة مانديلا بسجّانه العُنصري خلال 20 عاماً، ونتيجتها؛ بينما في "مُسدّس مانديلا" (2016) لجون إيرفن، فتعود الأحداث إلى أوائل الستينيات الماضية لكشف بعض المسكوت عنه في تاريخ الرجل، باستعراض جهوده الأولى لإنشاء خلية سرية جديدة وتنظيمها، تناهض سياسة الفصل العنصري في بلده.

في المنهج نفسه، المرتبط بمناهضة العنصرية، ارتكز الفيلم التلفزيوني "مانديلا دي كليرك" (1998) لجوزف سيرجنت (سيدني بواتيه ومايكل كين)، بينما استعان "مانديلا: خطوات طويلة نحو الحرية" (2013، تمثيل إدريس إلبا) لجاستن شادويك بالشكل التقليدي الكلاسيكي، مُتلزماً مذكرات مانديلا بالعنوان نفسه. ورغم الأمانة والالتزام، لم يقدر المخرج إلّا على تكثيف الأحداث، وانتقاء أبرز المحطات.

العبء الأكبر في هذا النوع من الأفلام يقع على عاتق المُمثل، إذ يضطرّ إلى التخلّي عن شخصيته وذاته إلى أقصى حدّ ممكن، والتحوّل كلياً إلى شخصية أخرى، ليتعدّى دوره حدود التقمّص التقليدي. هذا يفرض قيوداً وصعوبات هائلة عليه، إذْ يُقاس نجاحه دائماً بمعزل عن موهبته وإمكاناته وقدراته، فالفصل في أفلام السِيَر الحياتية مرتبطٌ بقدرة الممثل على إشعار المُشاهِد بأنّه إزاء الشخصية نفسها، لا أمام نُسخة مُقلّدة منها. أحياناً كثيرة، يتجاوز الأمر حدود الموهبة والقدرات التمثيلية، فيكون الأساسيّ مدى تشابه الوجه والجسد ولون البشرة والصوت.

عبء آخر لا يقلّ أهمية، يُناط به فنانو الماكياج. فهم مطالبون، أكثر من غيرهم، بتحويل المُمثل إلى نسخة شبه مُطابقة للشخصية المطلوب تأديتها. هذا بالغ الصعوبة والتعقيد والإقناع. أحياناً يوفّق فنانو الماكياج في هذا. إليهم، يتجلّى دورٌ بارزٌ جداً لمصمّمي الملابس والديكور، لتنفيذ صورة سينمائية تُطابق الأزياء الملائمة للعصر الذي جرت فيه الأحداث، ولمواقعها الحقيقية التي شهدتها. أحياناً، يكون هذا غير متوفّر. ندرة الأعمال العربية رغم الإنتاجات المتزايدة، وازدهار أفلام السِيَر الحياتية عالمياً، فإنّ نقيض هذا يحصل في العالم العربي. ففي تاريخ السينما العربية، لا يكاد يتجاوز أعدادها دزينة أو أكثر بقليل. الأسباب مجهولة، لكنْ يمكن إرجاع الأمر، في جانب منه، إلى ندرة السِيَر الذاتية والحياتية العربية. ففنّ السيرة، المُستمدّ من أدبيات الاعتراف المسيحي وفضح الذات وتعرية الروح في العصور الوسطى، لم يجد له أرضاً خصبة في العالم العربيّ، لأسبابٍ سياسية واجتماعية ودينية أساساً. وبصرف النظر عن السِيَر المكتوبة ومصداقيتها، يزخر التاريخ العربي، القديم والمعاصر، بمئات الشخصيات الأدبيّة والاجتماعية والسياسية والفنية وغيرها، التي تُعدّ مادة خصبة لصناعة أفلام سِيَر كثيرة.

 على قلّتها، لا تزال تحظى الأفلام المُنجزة بقبول شديد عند إعادة عرضها، رغم عقود على إنتاجها، وتفاوت الآراء بشأن بعضها، إنْ تناولت الأفلام مناضلين، كـ"جميلة بوحيرد" (1958)، أو شخصية تاريخية، كـ "الناصر صلاح الدين" (1963)، والفيلمين للمصري يوسف شاهين؛ أو شخصية موسيقار، كـ"سيّد درويش" (1966) لأحمد بدرخان، أو رئيس جمهورية، كما في "ناصر 56" (1996) لمحمد فاضل و"جمال عبد الناصر" (1999) لأنور قوادري و"أيام السادات" (2001) لمحمد خان. لكنْ، رغم تحقيق أفلام السِيَر الحياتية نجاحاً جماهيرياً مطلوباً، وإيرادات مُتوقّعة، وتقديراً نقدياً جيّداً، مالت الكفّة ولا تزال تميل إلى الإنتاج التلفزيوني لا السينمائي

المساهمون