الأجندات الأجنبية والعربية ترسم سياسة مصر الخارجية بعد الانقلاب

الأجندات الأجنبية والعربية ترسم سياسة مصر الخارجية بعد الانقلاب

03 يوليو 2016
تحوّلت مصر لدولة تابعة في فلك سياسات دول أخرى(Getty)
+ الخط -
كان للمؤثرات العربية والغربية على انقلاب 2013 وما تبعه من أحداث في مصر، سواء بدعم النظام العسكري الجديد، أو معارضته، أو الصمت على ما حدث، أكبر انعكاس على بلورة السياسة الخارجية التي انتهجها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على مدار 3 سنوات. فهو لم يأت بأجندة خاصة مستقلة تتبنى مواقف معينة إزاء القضايا الإقليمية والعالمية، بل تأثر بالدرجة الأولى بالأجندات الخارجية، وخصوصاً بمشاريع ومصالح الدول والأنظمة التي دعمته، مما حوّل مصر إلى دولة تابعة في فلك سياسات دول أخرى لم تكن أعلى منها قدراً ولا أكثر تأثيراً في ما مضى من سنوات، بما في ذلك الفترة من 2011 إلى 2013.

وبلغ التردي ذروته إلى حدّ تبرؤ وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال رحلته إلى الولايات المتحدة، أخيراً، من كون مصر دولة رائدة، مشيراً إلى أنها "ليست دولة رائدة، ولا تسعى للريادة"، في ظل رغبة السيسي المحمومة في جذب الاستثمارات العربية والأجنبية أكثر من أي شيء آخر. كما ركّز الأخير في جميع رحلاته الخارجية على الملفات الاستثمارية في المقام الأول، إلى الحد الذي جعله يلتقي رجال الأعمال أكثر من لقاءاته مع السياسيين، وخصوصاً في ألمانيا، واليابان، والصين.

السعودية... مسافة السكة
منذ وصوله للحكم، يراهن السيسي على إمكانية الحصول على أكبر دعم اقتصادي ممكن من السعودية، باعتبارها حليفاً تاريخياً لمصر، وأنّ ثقلها الاقتصادي في العقود الماضية كان يوازي الثقل السياسي المصري. غير أن السيسي ذهب لأبعد من ذلك واعترف بأن الثقل السياسي للسعودية بات أكبر من مصر، وحرص دائماً على إرضاء المملكة وإعلان الولاء لسياساتها، حتى إذا تغيرت بوصلتها بتغير الإدارة.

لا يمكن قراءة التحوُّل الذي طرأ على سلوك القاهرة في الملف الفلسطيني عن ذلك الذي حدث في الإدارة السعودية مع تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم وصعود نجم نجله، ولي ولي العهد، وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وهما لا يجدان غضاضة في التعامل مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والاعتراف بقوتها على الساحة الفلسطينية، على عكس القطيعة التي كانت إدارة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز تقودها ضد "الحركة". قرأ السيسي هذه الإشارات مبكراً، وغيّر طريقة التعامل مع "حماس" من الإنكار، والحصار، والتضييق، والهجوم الرسمي والإعلامي، والدعوة الصريحة لتسليم مقاليد الحكم كاملة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى التنسيق الأمني والاستخباراتي بشأن محافظة سيناء (شرق مصر)، والحدود وصولاً إلى إطلاق دعوة للمصالحة الفلسطينية برعاية مصرية.

أما في ملف اليمن، فلم يتردد السيسي، بداية، في إرسال القوات البحرية والمظلية المطلوبة للمشاركة في عملية "عاصفة الحزم" تحت القيادة السعودية في ربيع 2015. وتولّت البحرية المصرية تأمين مضيق باب المندب بحسب الخطة السعودية. إلا أن الأحداث التالية تكشف أن السيسي آثر عدم إغضاب حليفه الروسي، ووجد ضالته في تسويق فكرة عدم إقحام القوات المصرية في مواجهات برية، هرباً من مصير الجيش المصري في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر خلال حرب اليمن في ستينيات القرن الماضي. كما جعل السيسي من القاهرة مكاناً آمناً لاستضافة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ومساعديه في بعض الأوقات بتنسيق أمني مع السعودية.


ولضمان إرضاء السعوديين واستمرار الدعم المالي والاستثماري للنظام، استجاب السيسي لمطالباتهم التاريخية في جزيرتَي تيران وصنافير، من خلال تسريع وتيرة المفاوضات حول إعادة ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين. كما استجاب لمطلب السعودية بتقديم موعد توقيع الاتفاقية ليصبح خلال زيارة الملك سلمان إلى القاهرة، في ظل الحفاوة البالغة والاستثنائية التي قوبل بها العاهل السعودي والوفد المرافق له.

أما في الملف السوري ومكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، فاستطاع السيسي الهروب من مأزق مُحرج آخر بدعم الرؤية السعودية أو غيرها من السياسات المطروحة بالتأكيد على انشغال مصر بمحاربة إرهاب "داعش" الممتد في سيناء، والاكتفاء بتقديم خدمات استخباراتية للسعودية وغيرها من الدول الفاعلة في هذا الملف، وذلك حتى لا يقع في حومة إرضاء دولة وفقدان دعم أخرى، لا سيما في ظل اختلاف المآرب بين السعودية وروسيا تحديداً.

الإمارات... من ليبيا إلى دحلان
العلاقة بين السيسي وحكومة الإمارات، وخصوصاً ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، تتسم بالقوة والخصوصية، والسعي المتبادل للاستفادة اقتصادياً وسياسياً من النفوذ الإماراتي في مصر، لدرجة أنها كانت من محددات تعاطي القاهرة مع الملف الليبي اللصيق بها جغرافياً والمؤثر على أمنها استراتيجياً. وبناءً على دعم الإمارات المالي واللوجستي للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، بات السيسي مهتماً برسم دور سياسي مستقبلي لهذا الأخير على رأس الجيش الليبي أكثر من اهتمامه بحلحلة الأمور العالقة في ليبيا، وهو ما أفقد مصر فرصة تاريخية لرعاية اتفاقات وتفاهمات التصالح بين الفرقاء الليبيين، فانتقلت التفاهمات إلى أراضي دول أخرى، وفي مقدمتها المغرب. كما لم تعد الدول الأوروبية المهتمة بالشأن الليبي، وفي مقدمتها إيطاليا وفرنسا، والولايات المتحدة بعد تدخلها، تعتبر أن مصر يمكن أن تكون راعية لتفاهم محتمل، وذلك لأن السيسي مهتم بتكريس سلطة حفتر أكثر من أي شيء آخر.

ولا يوجد ماضٍ للعلاقة بين السيسي وحفتر، بل يربط بين الاثنين دعم الإمارات، وتوجيهات أمنية واستخباراتية يصدرها القيادي المطرود من حركة "فتح"، محمد دحلان، والذي يروّج، كما السيسي، أنّ كل التيارات الإسلامية إرهابية أو قابلة للتحول إلى الإرهاب. وبدت الهوة شاسعة بين الرؤية المصرية ـ الإماراتية ـ دحلان للوضع في ليبيا، وبين رؤية الفرنسيين والإيطاليين، وحتى الأميركيين. فالرؤية الأولى ترتكز على أن يكون لحفتر دور في المستقبل السياسي والعسكري حتى إذا بلغ الأمر تحصين استقلاله بإدارة الجيش الليبي، بهدف أن يكون للإمارات ثم لمصر ذراع عسكرية هي الأقوى في ليبيا. لذلك، لا يملّ السيسي من الترويج لضرورة رفع حظر توريد الأسلحة إلى الجيش الليبي.


في المقابل، يرى الغرب أن تحديد دور حفتر يأتي في مرحلة لاحقة على تنفيذ كامل بنود اتفاق الصخيرات في المغرب، وأن استئثار حفتر بالجيش الليبي الوطني يجعل منه مليشيا يجب تطبيق حظر توريد السلاح عليه، لحين التوافق الوطني على موضوع تكوين الجيش.

ولا يمكن فصل تحرك السيسي في الملف الفلسطيني، أخيراً، عن الرؤية الإماراتية. فالمصالحة الداخلية لحركة فتح التي لمّح إليها السيسي علناً وتحدث عنها صراحة في لقاءاته بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، ودارت بشأنها رسالته الأخيرة إليه التي أوصلها وزير خارجيته سامح شكري إلى رام الله، منذ أيام، (في زيارة هي الأولى منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك لوزير مصري إلى رام الله). كل هذه التحركات ترمي إلى خلق دور مستقبلي لدحلان في القيادة الفلسطينية، وهو ما يعارضه عباس حتى اللحظة.

ويذهب بعض المراقبين للحديث عن اتفاق مصري ـ إماراتي ـ أردني لإزاحة الرئيس الفلسطيني وتصعيد دحلان، وهو مشروع مدعوم من أوساط إسرائيلية يتقدمها وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان. بينما تتحدث المصادر المصرية عن مصالحة بين الطرفين، في إطار دعوة المصالحة الفلسطينية الشاملة التي أطلقها السيسي، الشهر الماضي، مع الاعتراف بصعوبة إقناع عباس بالمصالحة مع دحلان أكثر من إقناعه بالجلوس مع "حماس" على طاولة واحدة.

إسرائيل... تنسيق متكامل
لا شك أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزراء حكومته المشيدة بقرارات السيسي ومبادراته تعبّر بوضوح عن مدى قوة التنسيق الذي يأخذ منحى تصاعدياً منذ وصول السيسي للسلطة، سواء على الصعيد الأمني والعسكري أو السياسي. وشهد عهد السيسي إعادة افتتاح السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، وتوطيد التعاون الأمني والعسكري خصوصاً في مجال محاربة الإرهاب بشمال شرق سيناء، إذ بات معروفاً عبر شهود العيان مشاركة طائرات إسرائيلية من دون طيار في عمليات المراقبة، والتمهيد للضربات العسكرية المصرية، لما تظنّه مصر معاقل لتنظيم ولاية سيناء التابعة لتنظيم داعش.

وخلال حواراته وخطاباته، لا يعتبر السيسي، الذي لم يشارك عسكرياً إلا في حرب الخليج الثانية، إسرائيل عدواً، بل يكاد لا يشيد بأي قرار اتخذه الرئيس الراحل أنور السادات عدا ما يتعلق باتفاق السلام مع إسرائيل، وهو ما أشار إليه صراحة خلال خطابه، منذ شهرين، في أسيوط، في إطار دعوته الفلسطينيين والإسرائيليين لاستئناف مفاوضات السلام. وعلى الرغم من أن نتنياهو كان قد أعلن قبل ذلك بأيام رفض المبادرة الفرنسية للسلام، إلا أنه رحب بتصريحات السيسي واعتبرها صادرة عن قائد يمكن الوثوق به، إذ لا يمكن الفصل بين توطيد التنسيق بين الجانبين وبين الرؤية المشتركة السلبية لليمين الإسلامي، وهو ما يدعم فرص التقارب بين الجانبين خلال الفترة المقبلة.


روسيا.. المصالح أولاً

جاء حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ليكشف هشاشة علاقة الصداقة التي كان السيسي يعتبرها وطيدة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. فالعلاقات بين الجانبين أُصيبت في مقتل، خصوصاً على الصعيد السياسي. وبدأ السيسي في العودة مجدداً إلى الفلك الأميركي على الرغم من كل ما يلاقيه من المسؤولين الأميركيين من مُساءلات محرجة. زار السيسي موسكو 3 مرات، وزار بوتين القاهرة مرة واحدة العام الماضي. وخلال هذه الزيارات، استطاعت روسيا إعادة فتح السوق المصرية أمام أسلحتها بعد سنوات من قصر التسليح المصري على الإنتاج الأميركي، إذ أنفقت مصر نحو 15 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة على التسلح، منها نحو 60 في المائة على الأسلحة الروسية.

كما تم توقيع قرض روسي لمصر هو الأضخم في تاريخها بقيمة 25 مليار دولار لتمويل بناء محطة الضبعة النووية التي ستنفّذها شركة روسية هي "روس آتوم". وحتى الآن لم يتم حل بعض النقاط العالقة في ملف التنفيذ، ما أدى إلى تأخر الموعد المحدد لبدء الإنشاءات من مطلع العام الحالي إلى الربع الثالث أو الرابع منه. كما تم توقيع تفاهمات لمشاركة روسيا في إعادة تأهيل مصانع القطاع العام التي شاركت في إنشائها خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

على الصعيد السياسي، حاولت مصر تقديم خدمات استباقية لروسيا من خلال استضافة عدد من الفرقاء السوريين وتأييد أن يكون لرئيس النظام السوري بشار الأسد دور في المستقبل السوري. وتحدث السيسي مراراً عن ضرورة الحفاظ على كيان الدولة السورية، وهو ما يخدم الرؤية الروسية من دون التورط معها عسكرياً، فيما قد يغضب الحليف الآخر الفاعل في الملف وهو السعودية.

ولم تشفع كل هذه الخطوات للسيسي عندما سقطت الطائرة الروسية، إذ لا يزال بوتين يرى أن المطارات المصرية غير آمنة لإعادة استئناف الرحلات الروسية إلى مصر، مما يفقد مصر جزءاً مهماً من دخلها القومي وموردها الأساسي للعملة الصعبة، كما يؤثر سلباً على حركة النقل الجوي والسياحة إلى مصر من مختلف دول العالم. وعلى الرغم من اتصالات السيسي المتكررة بنظيره الروسي لحلّ هذه الأزمة والإسراع باستئناف الرحلات، وعلى الرغم من إعلانه أن الطائرة أُسقطت بعمل إرهابي يسعى لضرب علاقة مصر بروسيا باعتبارها من حلفائها البارزين، كل ذلك لم يؤت أكله، مما يخرج العلاقة الثنائية بين الرجلين من إطار الخصوصية الذي كان مرسوماً لها، ويؤكد أن كل طرف يبحث عن مصلحته أولاً من دون أي تنازلات استراتيجية.


المساهمون