"فالنتاين" القشّة التي قصمت ظهر البعير

"فالنتاين" القشّة التي قصمت ظهر البعير

13 فبراير 2020
+ الخط -
الكلمات التالية على لسان رجل...

أعترف بفشلي الذريع في استيعاب تصرّفات النساء أحياناً، حتى زوجتي، أقرب الناس إليّ. وعلى الرغم من أنّني من المعجبين بتلك الأفلام التي يتحوّل فيها الناس إلى أبطال أو ذئاب، لكن في الواقع أنا شخص يربكه أي تغيير سريع.

أخاف ألّا أكون على مستوى التوقّعات. أبسط مثال على ذلك، القلق الذي ينتابني مع صعوبة فهم زوجتي مع كل فالنتاين. يحيّرني، يوتّرني ويدفعني إلى التساؤل: "لماذا تمثّل دور المتيّمة بحبي أو لماذا تتفجّر مشاعرها كلّها دفعة واحدة في فالنتاين؟ ليس ذلك فحسب، بل لماذا تتوقّع أن أجاريها في تمثيليتها؟".

مع اقتراب موعد فالنتاين كل عام، تعود بي الذكرى إلى مساء 14 فبراير/ شباط 2014. يوم لن أنساه ما حييت.. كانت زوجتي قد برعت كعادتها في التحضير لـ"مسرحية الحب" المزعومة. وكان يفترض بي أن أتحوّل "أنا" إلى قيس أو روميو و"هي" إلى ليلى أو جولييت. مسرحية مللتها مع مرور السنين.

دخلت منزلي ذلك المساء، وكان أشبه بمسرح تضيئه الشموع الحمراء. لم تنقصه سوى إطلالتي "أنا البطل". تصرّفت على طبيعتي هذا العام. وبدا أنّ الليلة انقضت على خير، على الرّغم من تجاهلي لتمثيل الدور المطلوب مني. تنفّست الصعداء قبل أن أخلد إلى النوم وقلت في سرّي بخبث: "أخيراً انتهينا من هذه المهزلة". كانت هي تغلي غيظاً من دون علمي.

أجّلت زوجتي، رأفة بأطفالنا على الأرجح، موعد العقاب وخطّطت لتنفيذه بعيداً عن عيونهم. ربّما لم تشأ أن تشوّه ذاكرتهم النقية بهذا المشهد المؤلم. غريزة الأمومة انتصرت على كل ما يعتمل في داخلها من غضب. لكنّ الغريزة ذاتها لم تمنعها من إيذاء والد أطفالها وزوجها.

استيقظت باكراً كالعادة. تناولت القهوة معها. كنت أختلق أي حديث، بينما كانت هي صامتة، كتمثال. غادرت إلى عملي. مضت ساعتان تقريباً. حوالي الساعة الحادية عشرة، لمحت سيارة شرطة تتوقّف أمام المحلّ. ترجّل منها شرطيان. كنت أراقبهما من الداخل. تحدّثا إلى أحد الموظفين. لم أكثرث للأمر. أشحت بنظري عنهما. لكنّي أحسست بهما يسيران باتجاهي. وقفا مباشرة أمامي. تأكّدا من اسمي. كنت كأبله يحاول فهم ما يجري.

"علينا إيقافك فوراً بتهمة العنف المنزلي"، قال أحدهما. وقبل أن أستوعب ما قاله، قرأ عليّ حقوقي. طلب منّي تسليمه جوّالي وإفراغ كل ما في جيوبي.

تلعثمت. ارتبكت. ومرّت لحظات صمت غريبة قبل أن أنطق ببضع كلمات: "هناك خطأ ما. لا مشاكل مع زوجتي. تناولت معها العشاء وقهوة الصباح و..".

قاطعني الشرطي وكرّر اسمي بالكامل، ثمّ سألني إن كنت أنا صاحبه. نظرت من حولي باستغراب، ثمّ إلى عينيه بذهول، وهززت رأسي بالإيجاب.

قال: "اتصلت زوجتك هذا الصباح ورفعت قضية ضدّك. أنت متّهم بضربها وتعنيفها". حمل الأصفاد وطلب مني أن أمدّ يدي ليكبلهما.

لوهلة لم أفكّر سوى بمنظري المخجل وأنا مكبّل اليدين أمام بقية الموظفين والزبائن. سألته بنبرة متوسّلة: "ممكن أن تسمح لي بالخروج من المكان ثمّ كبّلني؟".. نعم "صارت معي"، وكان أصعب موقف أواجهه في حياتي.

دخلت حافلة الشرطة مكبّل اليدين كمجرم. وصلنا مركز الشرطة حيث وضعوني في غرفة صغيرة من دون أن ينبسوا ببنت شفة. تركوني وحدي هناك. ساعات والأفكار والتساؤلات تغزو رأسي حتى كاد ينفجر.

ربّما جاءت ردّة فعلها قاسية، لانّني للمرّة الأولى منذ زواجنا لا أقدّم لها هدية بمناسبة فالنتاين.. من المؤكّد أنّني خلقت فراغاً عاطفياً لم أقدّر حجمه. لطالما حاولت أن تلمّح لي عن الملل الذي تعيشه وعن أحلامها التي تبخّرت.. اعتقدتها ثرثرة نساء فمعظمهنّ يتهافتن على الزواج وبعدها يدخلن في عالم من الشكوى والملامة لا نهاية له.. هل تعاني زوجتي من حالة نفسية؟ هل هي مصابة باكتئاب حاد؟ كيف تتهمني بجريمة لم أقترفها؟ من المسؤول؟ هل مناسبة الفالنتاين كانت القشة التي قصمت ظهر البعير؟ أم أنا؟ أم هي؟ أم جميعنا مسؤولون؟

انقطع حبل أفكاري مع فتح الباب. رافقني شرطي إلى غرفة أخرى، وجلست هناك أنصت إلى التهم الموجّهة ضدّي. لم أتفوّه بكلمة. كانت الصدمة أكبر من أي جواب.

من أحارب؟ المرأة التي أخترتها زوجة لي وبنيت معها عائلتي الصغيرة؟ هل كان عدوي في بيتي يربي أطفالي ويتقاسم معي لقمة العيش ويحتضني كل ليلة لسنوات؟ هل وهل وهل؟ من هي هذه المرأة الغريبة القاسية؟

"بماذا أجيب؟ كيف أدافع عن نفسي؟ وضد من؟"، سالت دموعي أمام هذا الموقف الذي لم يمر حتى بخيالي. كانت الدموع تختصر كل مشاعر الوجع الذي اعتصر قلبي على دمار عائلتي. كان قراراً ربما شاركت به بطريقة غير مباشرة. لكنّها كانت القاضي الذي أصدر الحكم، ولأسباب أعجز عن تبريرها لغاية اليوم.

مرّت وجوه أطفالي وابتساماتهم البريئة أمام ناظريّ. وراح سؤال واحد يتكرّر في رأسي: "هل هناك على وجه هذه الأرض ما يستحق التضحية بسعادة هؤلاء الملائكة الصغار؟".

دلالات

6364AD4E-A2A5-4819-99F6-1BAAD0929FF0
كاتيا يوسف

صحافية لبنانية مقيمة في لندن، خريجة الجامعة اللبنانية قسم العلوم السياسية والإدارية. مراسلة "العربي الجديد"، في بريطانيا، منذ عام 2014.