صارت معي... واختبرت العزلة الفارهة وتلك القاتلة

صارت معي... واختبرت العزلة الفارهة وتلك القاتلة

08 ابريل 2020
+ الخط -
مع انتهاء دوام المدرسة كنّا نركض إلى سيارة أبي ليعود بنا إلى المنزل. هناك مرّات لم يأت. حالات نادرة، لكنّها لا تزال راسخة في ذاكرتي وذاكرة إخوتي. كنّا أطفالاً، وأكبرنا كان يبلغ الخامسة عشرة من العمر.

عدم مجيء والدي في الوقت المحدّد كان يترك على وجوهنا الصغيرة ملامح حيرة وضياع. وكنّا ننتظر ونترقب آخر الشارع لساعات، حتى ترهق أجسادنا الصغيرة ونفقد الأمل. فنحدّق بعيون تائهة بأخي الكبير، أملاً في إنقاذنا من هذا المأزق. وما كان بيده هو الآخر، سوى أن يسير معنا باتجاه المنزل.

نمشي لما يزيد عن ساعتين، تحت المطر في الجوّ البارد أو تحت أشعة الشمس الحارة. أربعة أطفال يحملون حقائب أكبر منهم، وتنحني ظهورهم من ثقلها. لم نملك النقود لاستقلال سيارة أجرة. كان ذلك زمن يخلو من الجوالات والفيسبوك والواتساب أو أي تكنولوجيا أو فيروس كورونا. زمن يحرمنا الاتصال بأبي، الذي كان يضرب يده على رأسه ويقول: "نسيت من كثرة الشغل. والله نسيتكم".

العزلة التي يفرضها علينا فيروس كورونا اليوم تعيدني إلى التسعينيات. لو ضرب هذا الفيروس العالم آنذاك، وفرضت علينا العزلة، حيث كان الهاتف الأرضي حلماً بعيد المنال بالنسبة لي ولكثيرين من أبناء قريتي، وبات أمنيتي الوحيدة عندما وقعت في الحب. كنت أتوسّل جارتنا العجوز السماح لي باستخدام هاتف منزلها. عائلات معدودة امتلكت هواتف في ضيعتي. وكان ردّ جارتي حاسماً قاسياً في معظم الأوقات: "التلفون مش لطق الحنك، هيدا للضرورة وبس".


كنت أتحايل عليها وأذكّرها بحبيبها الذي سردت لنا قصته، وشاءت الأقدار أن تفرّق بينهما، وما إن تتعاطف معي مستعيدة ذكريات حب ضاع حتى تقول: "دقيقة واحدة بس. هيدا حكي حقه مصاري".

تلك الظروف كانت تحثني على ابتكار وسائل جديدة. أبتسم اليوم حين أتذكرها. كنت أصعد السلّم الحديدي إلى سطح المنزل، وأعلّق منشفة كبيرة بيضاء. كانت تلك المنشفة تحمل إشارة سرية اتفقت عليها مع حبيبي، وكانت البديل عن رسائل الواتساب الحالية التي يتبادلها العشاق. منازل معدودة كانت تفصل بين منزلينا، وما إن يلمحها حتى يسرع لملاقاتي.

التكنولوجيا ألغت المسافات وقلّصت وجع الغربة. عندما سافر أخي الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر، بكينا أسابيع على فراقه. لم يكن السفر سهلاً كما اليوم. اجتمعت القرية بأكملها لوداعه. وانتظرنا رسالته أشهر. والأجمل كان وصول كاسيت؛ شريط مسجّل بصوته. كنّا نستمع إليه مرّات ومرّات حتى يعلك ويصدر أصواتاً غريبة.

مرّت عشرات السنين على ذلك الشريط، ولا أزال أشعر بصوته المتألم من الوحدة والغربة حين قال: "أشعر بأنني اقتلعت من بينكم ورميت بعيداً". أمّا اتصاله الهاتفي فكان نادراً، وبحسب ما أذكر كان أبي يقصد سنترال هاتف زحلة للاتصال به وسماع صوته.

عزلة كورونا التي يختبرها العالم حالياً لم تبدّل روتين حياتي اليومية المعتاد. إنّها عزلة فارهة. عزلة أستمتع بها.

عزلتي الحقيقية عن العالم كانت من نوع آخر. وحدة أرغمتني على النوم في وضح النهار لقتل الساعات. تزوجت وسافرت بعيداً عن أهلي. كان زوجي يغادر في الصباح ويعود في المساء. وأمضي النهار مع طفلي. أقرأ له القصص. ونلعب سوياً حتى يصيبنا الملل. كان اليوم يمضي ببطء شديد. كانت عزلة قاتلة لا تخترقها سوى عودة زوجي في المساء. لأعود بعدها وأنتظر مرور الساعات من جديد.

تخيلوا لو ضرب كورونا العالم وقتها. هل كان بإمكاننا تحمّل تلك العزلة؟ انفصال حقيقي عن العالم الخارجي لأشهر كاملة. عزلة تمنعنا التواصل مع أهلنا. عزلة توتّرنا، تخيفنا، تقلقنا، وتقتلنا.

نحن اليوم نفتح الكاميرا ونتحدّث يومياً مع أهلنا وأحبائنا. نتواصل على الفيسبوك مع أصدقاء. ندردش على واتساب، ونتابع تويتر وإنستغرام... وعن أي عزلة نتحدّث؟
6364AD4E-A2A5-4819-99F6-1BAAD0929FF0
كاتيا يوسف

صحافية لبنانية مقيمة في لندن، خريجة الجامعة اللبنانية قسم العلوم السياسية والإدارية. مراسلة "العربي الجديد"، في بريطانيا، منذ عام 2014.