روما في الحجر الصحي

روما في الحجر الصحي

28 مارس 2020
"ساحة إسبانيا" بروما مهجورة، 19 آذار/ مارس الجاري (Getty)
+ الخط -

كارانتينا، اليوم الأول

نحفظ عن ظهر قلب النوافذ.
نجلس في الهدوء الحذِر لمنازلنا، ونحفظ عن ظهر قلب النوافذ.
ننتظر حتى يمرّ، فالأمر ليس واضحاً.
الحياة اليومية، وكل شيء كنّا نعرفه لبضعة أيام خلت، انقلب رأساً على عقب في غضون
بضع ساعات.
قبل لحظات كنّا جالسين على طاولة في المقهى، مع أصدقائنا المعتادين، نقرأ الأخبار عن
عدوى بدت لنا بعيدة.
"لا تحدث عندنا"، كنا نقول لبعضنا البعض.
"إنها ليست أكثر من إنفلونزا"، كنا نكرّر.
"لا نحسب حقاً أننا سنتوقف عن معانقة بعضنا البعض؟"، كنا نمزح.
فبالنسبة لنا، أناس البحر الأبيض المتوسط، أن نحيّي من بعيد، ألّا نلمس بعضنا البعض، أن نتجنّب إقحام أنفسنا في
مقارباتنا المتبادلة، هي إدانة.
ماذا يحدث عندما يبدأ الآخر في إخافتك؟
ماذا يحدث عندما تكون أنت الآخر الذي يخيف؟


كارانتينا، اليوم الثاني

"لا تحدث عندنا"، كرّرنا كل يوم من هذه الأيام التي لا تنتهي من الأزمة، متطلعين نحو الشمال.
ثم أدركنا لأول مرة كم هو صغير، بلدنا الصغير هذا.
لقد اتخذ الوقت سرعة جديدة.
السرعة التي يمكن أن يتغيّر بها كل شيء تعرفه في حيّز لحظة، باتت تخيف.
هل من نهاية لكل هذا؟ ومتى؟ وماذا سيبقى من كلّ ممّا كنا عليه؟
لقد تشظى الوقت. هناك، وسوف يكون هنالك دائماً، "قبل" و"بعد".
ما زلنا نتذكر تماماً ماذا كان من "قبل". ليس لدينا فكرة عمّا سيكون عليه في ما "بعد".
"علينا أن نبقى في المنزل حتى الثالث من نيسان"، نعيد لأنفسنا.
نعلم جميعاً أن الأمر لن يكون هكذا، ولكن لا أحد يجرؤ على البوح بذلك.
لأول مرة، نحن، هنا، ينتابنا الخوف.


كارانتينا، اليوم الثالث

يقولون إنهم أعادوا إلينا الوقت
لكننا، خلال لحظة، اكتشفنا أننا لا نعرف ماذا نفعل بكل هذا الوقت.
إنه وقت معلّق، وقتنا. وقت ممتدٌّ إلى ما لا نهاية.
لقد تغيّر معياره: لم نعد نحصي الأيام والأسابيع والأشهر. ولكن بالملّي-ثانية، بالثواني وبالدقائق.
كم من الوقت طول الدقيقة؟


كارانتينا، اليوم الرابع

نحصي الموتى. نحصي الأحياء ومن تعافوا.
"سيكون الأمر على ما يرام"، يكتب الأطفال على ملاءات معلّقة على النوافذ مع أقواس قزح.
هم يصدقون ذلك. نحن، لعلّنا أقل منهم.


كارانتينا، اليوم الخامس

في الساعة الثانية عشرة وفي الثامنة عشرة تَصِيتُ الشرفات: يجتثوننا من الشاشات التي هي النافذة الوحيدة المفتوحة على عالم لم يعد موجوداً، نخرج إلى الشرفات ونبدأ الإصاتة. نتبادل التحيات. نتعرف إلى بعضنا البعض من جديد.
العالم من الداخل والعالم من الخارج يتحدان للحظة.
نحن ما زلنا هناك، لقد مضت ثماني ساعات أخرى، ومضى يوم آخر.


كارانتينا، اليوم السادس

يقولون لنا: "إذا كنت ترغب في منع العدوى، فيجب عليك ألّا تتفاعل مع الآخرين".
لنا، نحن شعب العناق والطوابير غير المنتظمة.
لكي نخرج من المنزل، لدينا تصريح يقول: من أين أتيت، أين تذهب، ولماذا تذهب إلى هناك.
بدأت شمس آذار تتألق في الخارج، لكنها حادّة. لقد حُظر علينا الاستحواذ على حرارتها.
الأرض بدأت تتنفس منذ أن توقفنا نحن عن التنفس.
أولئك الذين يموتون اليوم، يفعلون ذلك بلا نَفَس.
لعلهم أعادوا للأرض أنفاسها.
أخرج، لأنني أفتقد ذاك النَفَس. أنتهك أحكام القانون. أمشي في مدينة قاحلة.
أحيّي امرأة تطل من شرفتها.
"صباح الخير، يا سيدتي"، أبتسم.
"صباح الخير"، تردّ التحية وتبتسم بدورها.
تلوّح يدها مثل طفلة.
أشعر برغبة في البكاء لهذا الشيء الصغير، الجميل للغاية.


كارانتينا، اليوم السابع

ثمة صمت يصمّ الآذان.
إنه صمت لم نسمعه البتّة في روما. كثيف لدرجة أنه يُبدي جلياً كل نبضة من القلب.
الرئتان لا تزالان تعملان.
هل نحن أكثر إنسانية في كل هذا؟
أم أقل إنسانية؟
الآن، بعد أن تم منعنا من الملامسة، هل سنتعرف إلى بعضنا البعض مرة أخرى، أم سيستمر في إخافتنا؟
مغلقون، محظورون، مرفوضون، مطرودون، مرتهنون للتضامن. لقد أصبحنا نحن الآخر.
حتى الأطفال في الشارع تعلموا اللعب عن بعد.
هل يمكن للنظرات أن تلامس الأجساد البعيدة؟
لم أنس رائحة صديقاتي، وعندما أراهنّ على الشاشة، أشعر بها.


كارانتينا، اليوم الثامن

شرفة تضمن قطعة من السماء.
الشجرة التي أزهرت في المقابل.
القطّ الذي يقفز من السطح القريب.
ابتسامة السيدة، على الشرفة المجاورة.
طفل في الشارع يضحك بصوت عالٍ جداً.
شذرات جمال لم نكن نعبأ بها سابقاً، علينا أن نكتفي بها اليوم.


كارانتينا، اليوم التاسع

تصل رسائل التضامن من العديد من الأمكنة الأخرى في العالم.
فلسطين تلوّح بالعلم الإيطالي.
"كيف حالك؟ هل يمكننا أن نفعل شيئاً من أجلك؟ خذي حذرك، من فضلك"، يكتبون لي من غزة.
لكن هنا في الخارج، لا يوجد سوى صمت لم نألفه قطّ، ليس صوت القنابل.
يمكننا أن نموت. ولكن يمكننا ألا نفعل ذلك أيضاً.
لأول مرة يتم التشكيك بامتيازنا.
للمرة الأولى، الحرية ليست أمراً مفروغاً منه.
لقد أصبحنا الآخرين.
ربما هذا هو قصاصنا.


كارانتينا، اليوم العاشر

السرعة التي تعلمنا فيها أن نتجنب بعضنا البعض في الشارع لا تصدّق.
يبدو لي أنني أحاول أن أبتسم بقوة أكثر.
هل سنعود إلى تقليص المسافة؟ هل سيكون العناق المتوقع كافياً لمحوه؟
هل ستكون النظرات قادرة على أن تصبح لغة جديدة وعابرة؟
بأي كلمات سنستمر في ملء هذا الوقت؟


* Cecilia Dalla Negra باحثة وكاتبة إيطالية من مواليد 1984، متخصّصة في شؤون المنطقة العربية وخصوصاً الحركات النسائية في فلسطين. أصدرت السنة الماضية كتاباً بعنوان "كانت تسمى فلسطين: تاريخ شعب من النكبة حتى الوقت الحاضر"، وأشرفت على إعداد كتاب "الثورات المنتهكة بعد خمس سنوات" (2016)، كما شاركت في تأليف كتابين، هما: "سجلات ثورة مضادة (2011)، و"المرأة في الإعلام العربي (2014).

** الترجمة عن الإيطالية: يوسف وقاص

المساهمون