شبح ملاك طُرِد من بستان بابل

شبح ملاك طُرِد من بستان بابل

29 مايو 2017
(الشاعر خوسي ساريّا)
+ الخط -

الفصل الأوّل

(I)

مع طلوع النّهار، لاحت بقايا خيبةٍ.

تجوب أشباحُ الزّمان
ثنايا الذّكريات
الممتدّة: أطلالُ ماضٍ
تحرسها ملائكة أمينة،
تحدّد في آخر البستان
مُحيطَ
جَنَّةِ عَدْن.
ربّما كانت حوّاء صاحبة الخطيئة الأصليّة.
وربّما كان آدم
من أكل من التفّاحة.
ومن المحَقَّقِ أنّ كلاهما يُدرك
أنّه ما من هُيَامٍ يُؤَبّدُ
رقمٌ لكلّ ليلة.


(III)

قد يكون غيابُ العطف والحنان جعله يشعر بمُتعة لا متناهية وهو يقرأ رسائل في الحبّ وعواقبه.
كان يَمْلِكُ مكتبة بين مجلّداتها أسفارٌ تناولت هذا الموضوع منذ القِدم.
ولم يكن الأطبّاء يفهمون ذلك. وفي صباح ما، لقي حتفه جرّاء تجرّعه كميّة هائلة من الأخطاء المطبعيّة.


(IX)

كانت ذائعةَ الصّيت بين أهالي البندقية بسبب جمالها الرّائع وبرودةِ تحفّظها.

وقد بلغتها منذ أشهر أنباءٌ حول غزوات العثمانيّين لجزيرة مالطة. وربّما كانت واثقة من أنّها ستلتقي يوماً، ثانية، بذلك الفارس الشّاب الّذي سافر لفتح الأرض المقدّسة فوافقت على أن يخلّد جيياكومو دي كرباتشيو ألمَها في صورة أمَرَ الرسّام بتعليقها بمدرسة سان جيورجيو دالّي سكيافوني. وعلى هذه الصّورة، تبدو امرأة في سنّ النّضج، لكنّ أساريرَ وجهها الصدفيّ متناسقة، تروي ماضياً مشرقاً، وقد جلست إلى الرّسام مواجهة، وعيناها فائضتان حزناً.

ومن خلفها، تُلْفتُ الانتباهَ مِشْكَاةٌ وضع بها أُرغُنٌ له شكلُ قلب نُقِشتْ عليه باللّغة اللّاتينية: "أَنْتَظِرُ رُجُوعَكَ بِوَفَاءٍ".


(XII)

خلال إحدى رحلاتي إلى بلاد فارس، تعرّفتُ في القطار الّذي يربط بين مدينتي طبس ويزد على فلّاح مُسِنٍّ قصّ لي حكاية مذهلة.

روى لي نَصوح - وهو اسم الفلّاح - أنّه كان يوجد بمدينة كرمنشاه، بسهول نهر دجلة، دَيِرٌ لرُهبان أُرثوذكس كانوا يحافظون على كتاب مُقدّس يضمّ ضمن أساطيره روايةً مختلفة عن أسطورة برج بابل الّتي وردت في التّوراة.

جاء في هذه الأسطورة أنّ الملك الفارسي محمود كان له بين مستشاريه شيخ متفرّغ، إضافة إلى مهام أُخرى، للبحث عن الرّموز الفلكيّة وتفسيرها. وذات ليلة، بينما كان يرصد النّجوم، اكتشف في سطح القمر الخفيّ وجه بُنَيَّةٍ مليحة جدّاً نادته باسمه أكثر من مرة.

ربّما جُنّ هذا الحكيم لهذا التجلّي إذ انقطع لبناء برج يُسمّى "زِقورَة" قصد اقتحام القمر. وقد كرّس جزءاً هامًّا ممّا تبقّى من حياته لهذه المهمّة، حتّى بلغ ارتفاع البرج، حسب ما جاء في الأسطورة، أكثر من ألف قدم. وكان الملك يحبُّ هذا الحكيم فتركه يواصل شأنه. وعند وفاته أمر بإيقاف البناء. ومنذ ذلك الوقت، يتولّى جنودٌ حراسته باعتباره أحد أبرز رموز هذه المملكة.


■ ■ ■


الفصل الثاني

(I)
لم تبق جُزُرٌ مغمورة
تتحدّى القوانين
الّتي تتحكّم في سير الكَون،
ولا جياد طائرة
تغزو الكواكب السّيارة.
وقد أسمح لنفسي
أن أجزم بأنّ سُلالة البحّارة الأرغنوط
هي من صُنْعِ أساطيرنا.
فلماذا تطلبين منّي
أن أُعَاهِدَكِ على الوفاء
لهذا الحبّ الوهمّي
وأنتِ تعلمين
أنّني لستُ سوى
شَبح ملاكٍ
طُرِد منذ قرون
من بستان بابل؟


(II)

كانت ترصد من خلال نافذتها تحليق سرب من مالك الحزين تعوّد على بناء عشّه في مثل هذا الفصل قرب المستنقعات.

ذكّرها هذا المشهد بالعشيّة التي جرى فيها اللّقاء الغريب بالكائن المجنَّحِ الذي غمرها.

قالت للأطبّاء الذين فحصوها: كان أروعَ مخلوق رأيته في حياتي. كان جميلاً كالملاك الّذي يظهر في الصّورة الّتي تمثّل تعميد المخلّص بكنيسة القدّيس فيليب.

لم يُصدّق أحدٌ حكايتها. ولكن رغم أنّها كانت عذراء، وضعت بعد بضعة أشهر ولدًا أبعدوها عنه وعزلوها بمُستشفًى.

وهناك من أكّد أنّه تمّ العثور في غرفتها على ريش طائر من صنف مجهول.


(x)

قال الرّجل للمرآة: لا أعرف كيف أتصرّف مع شبحي. فمنذ أن عشقَ ملاكي الأمين، كثيراً ما أجده جالسًا على درج السلّم وهو يذرف دموعًا كالصّدف.
سألته المرآة: ما سبب ذلك؟ فأجابها: لا يُعيرُ أبداً اهتماماً إلى نصائحي. كلّما كان الجوّ صاح والشّمس مشرقة ساطعة، كان شبحي يُثابر في البحث عنه. إلّا أنّه لم يُصغِ إليّ عندما قلت له إنّ الملائكة، باستثناء بعض الظروف الفريدة، لا تظهر إلّا في دُجْنَةِ اللّيل.


■ ■ ■


الفصل الثالث

(III)

وَرَد في الإنجيل المُنْتَحَل لِهارون، ما يلي: في اليوم الثّالث، تمّ خلق البحار وتحديد مُحيطها. فأمر يَهوه، بعد أن ناقش جزئيّات شكلها، بذبح إبليس، رئيس ملائكته المُفضّل.

تمّ إلقاء ذلك المخلوق المُجنّح في أعماق اليمّ. فذاب جماله المُهيب بين الأمواج المتلاطمة وتولّد عن ذلك الحادث كائن قاتم اللّون، غامض. وقد سالت عيونه الزّرقاء الخضراء كالفيروز واختلطت بالمياه.

وهكذا اكتست المُحيطات والبحار اللّون الّذي نعرفها به اليوم.



* José Sarria شاعر وناقد إسباني من مواليد مالقة عام 1960. من أعماله الشعرية: "سجناء بابل" (1996)، و"جذور الماء" (2011)، و"لون الذاكرة" (2016). أنجز عدة أنطولوجيات شعرية، من بينها:"شعر أندلسي في كنف الحريّة: شعراء أندلسيّون في الربع الأخير من القرن العشرين" (2001)، و"أبناء العبور: شعراء عرب معاصرون بإسبانيا" (2013).

** ترجمة عن الإسبانية: محمّد نجيب بن جميع

المساهمون