متحف الأحياء

متحف الأحياء

11 اغسطس 2016
حمزة بونوّة/ الجزائر
+ الخط -

هل فكّرت يوماً وأنت تحاول تحرير إصبع قدمك الوسطى من التشنج، الذي باغتها فانفصلت عنك وتصلًبت لأجزاء من الثانية، بإمكانية أن تباغتك قوّة أعظم فتجمّدك كاملاً؟ المباغتة فعل ظالم كونه يسلبنا الخيار، هنا خيار وضعيتنا الأخيرة قبل التجمّد.

لنتخيّل أن العالم تحوّل إلى متحف كبير، وجميع الكائنات على درجة متساوية من الأهمية؛ بحيث ستُعرض جميعها فيه فور دخولها في طور التجمّد، والأجيال القادمة ستتعرّف عليها من خلال تماثيلها التي يُفترض منها أن تحاكي صورها قبل التجمّد.

يُقسَّم المتحف بناءً على وضعيات التماثيل. سيكون هناك قسمٌ ساخرٌ لشخصيات باغتها التجمّد في وضعيات مضحكة؛ وهي تمضغ الطعام، تسقط على مؤخّرتها، تعبث بأنفها، تتثاءب... وقسم تراجيدي لأناس تلطم، تشدّ شعرها، تتألّم، تبكي، تحتضر، تلد، لأناس تحت التعذيب، تحت قصف الحرب، تحت جسد مغتصبها، تحت الحر..

قسم حالمٌ لطفل ينام، شاب يدندن؛ امرأة تقرأ، أم تبتسم.. وقسم علمي، وآخر عملي لكل من تجمّد أثناء ممارسة عمله النظري أو التطبيقي، وقسم مقزّز، وآخر مرعب، وقسم فقير وآخر غامض. في الحقيقة، أقسام المتحف غير منتهية، وفي كل يوم سيُفتح قسم أو قسمان جديدان.

يمكن أن نتواجد في أي واحد منها، وأن نكون ذاك الذي تجمّد تحت التعذيب فنصبح في نظر الجيل القادم رجل الصليب، ويمكن للحظة نعاس أن تركلنا إلى القسم الساخر فندخل التاريخ من أسوأ أبوابه. نرى أن هذا ليس عادلاً كون طبيعة الإنسان هي الحركة المستمرّة، فلا يصحّ تقديمه للعالم باعتباره لحظة بُترت على حين غرّة من وصلة حياته.

كما أننا لو قمنا بإخطاره قبل تجميده، سيقع في فخ الادعاء، ويمثّل علينا صورته الأخيرة. في كلا الحالتين، سنحظى بمتحف من تماثيل نضحك عليها في الحالة الأولى، وتضحك علينا في الحالة الأخيرة.

جمال اللحظة يكمن في كونها منقضية، وجمال الإنسان يكمن في كونه عفوي؛ الحركة عفوية، الحركة أمّ العفوية والكاميرا عدو الحركة. الحركة تنجو من المحاكمات، طالما أنك تتحرّك ستتجاوز الآخرين وتتجاوز أحكامهم.

جرّب أن تقف، مثلاً، في منتصف رصيف شارع الإرسال في رام الله تمام الرابعة عصراً، سيتخبّط بك ويدفعك الناس بداية، لكن مع انقضاء الوقت وقوفك سيجذب انتباههم، وكلامهم، وتهكّماتهم، وضحكاتهم، وسخرياتهم، واستهجانهم، وربما أيديهم. ولكنك لو كنت استمررت بالسير لما كان ليلحظك أحد.

في أحد الأعراس، تاهت طفلة عن صديقاتها ووجدت نفسها بين أرجل الراقصين. تجمّدت في مكانها من هول المفاجأة، فدفعتها الأرجل يميناً ويساراً. بعد لحظات من مراقبتها، بدأت الطفلة ترقص، وتجاوزت برقصها كثيراً من الدعسات المحتملة ووجدت نفسها على جانب، وصديقاتها على الجانب الآخر.

تخيّل الآن أنك نشرت صورة على السناب شات. أقل مستخدم لديه مئة صديق. تخيل لو أنك تواجدت مع كل صديق في اللحظة التي قام فيها باستعراض صورتك، كم سيكون مؤلماً متابعة عن قرب تعليقات وتعبيرات مئة شخص على صورتك الشخصية! كم اقتربت الآن من ذاك المصلوب في متحف التجميد!

إذن، المشكلة غير مقتصرة على تجميد الشيء بل تتجاوز ذلك إلى تداوله، بمعنى أننا نجمّد الشيء زمنياً ونحرّكه مكانياً. هل يملك الميت أن يدافع عن نفسه ضد أحاديث الأحياء؟

غُرّتي على عينيّ، أعجز عن رفعها، أحاول مرة أخرى فأفشل، أبذل جهداً أكبر فتتمزّق الصورة وتسقط على الأرض بلا غرّة ولا رأس ولا زمان ولا مكان.


* كاتبة من فلسطين

المساهمون