عدنية شبلي في حوار مع زينة الحلبي:قلق المستعمِر من التفاصيل الثانوية

عدنية شبلي في حوار مع زينة الحلبي: قلَق المُستعمِر من التفاصيل الثانوية

31 مارس 2024
عدنية شبلي في الندوة (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- زينة الحلبي تناقش أهمية التفاصيل الثانوية في السياق الفلسطيني، مُشيرة إلى إلغاء معرض فرانكفورت حيث كانت عدنية شبلي ستُكرّم، لتُبرز كيف تُمكّن هذه التفاصيل الفلسطينيين من النفاذ إلى مركزية المشهد.
- عدنية شبلي تُعبر عن دور التفاصيل الثانوية في تماسك الحياة تحت الاحتلال، مُناقشة الكتابة كممارسة مقاومة وإعادة اعتبار للأصوات المُهمّشة، والعلاقة بين اللغة والعنف.
- الحوار بين الحلبي وشبلي يُبرز أهمية الخيال والأدب في تقديم منظور جديد للوجود الفلسطيني، مُؤكداً على الكتابة كعملية تحررية تُعيد تعريف العلاقة بين الكاتب، لغته، وجمهوره.

"لِمَ القَلق من تفصيل ثانوي؟"، هكذا عنونت الباحثة اللبنانية زينة الحلبي مقالها في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، الذي علّقت فيه حينها على القرار البائس، والمُتمثِّل في إلغاء "معرض فرانكفورت الدولي للكِتاب" الحفل الذي كانت ستُمنَح فيه الروائية الفلسطينية عدنية شبلي (1974) "جائزة ليتبروم". أفكارٌ عديدة من تلك القراءة الفاحصة لرواية "تفصيل ثانوي" (2016)، مثل المحو والقلق ووضعيّة أدب الجنوب عالمياً (تُمنح الجائزة أساساً لكاتبات من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي)، في ظلّ إبادة صهيونية مُمنهَجة في غزّة منذ ستّة أشهر، عادت لتُطرح في الحواريّة التي جمعت الكاتبتَين، وعُقِدت الخميس الماضي في "دار النمر" ببيروت، تحت عنوان "الكتابة وأطياف المحو"، وذلك ضمن جولة بيروتية قدّمت فيها شبلي على مدار الأيام الماضية ثلاث ندوات.

انطلقت شبلي في حديثها من "قلَق المُضطهِد من التفاصيل الثانوية، ونفاذ المُضطهَد عبرها إلى مركزية المشهد، في سياق يُواجِه فيه ويُحتِّم عليه الهدم في كلّ لحظة، هذه ليست فكرة عابرة، بل إن التفاصيل الثانوية هي ما تجعلُنا نتماسك في ما فُرض علينا ضمن السياق الفلسطيني". 

تستعيد مُحاوِرتُها، مُحرِّرة القسم العربي لمجلّة "فَم" الأدبية، هذه الفكرة من خلال تمثيلها عبر التذكير بكاتبة من جيل الرُّوّاد في الأدب الفلسطيني؛ القاصّة سميرة عزّام (1927 - 1967)، وكيف أثّرت قصصُها بشبلي، وأعانتها على تخيُّل الحياة الفلسطينية قبل النكبة والاحتلال، حيث الأبطال لا يُعايشون أزمات كُبرى بالضرورة، بحجم العُنف الاستعماري المهول الذي يُحكِم على تفاصيل حياة الشعب الفلسطيني منذ 1948، بقدر ما يُواجهون "عقبات" الحياة اليومية العاديّة كأن "تروح عليك نومة" مثلاً، وهذا يُحيل بشكلٍ ما إلى أهمّية الاعتماد والتمسُّك بالهامش، وبالتالي تُصبِح التفاصيل الثانوية، وفقاً للحلبي، "مدخلاً منهجيّاً ولحظة إدراك لتعقيدات السرد على مستوى اللغة والعنف وسوى ذلك".

يحار الإنسان الفلسطيني من أيّ التواريخ سيبدأ

تُتابع شبلي حديثها: "قلّما أفسح التاريخ المجال للثانوي، دائماً ما شُغل بالاعتبارات المركزية كلّ هؤلاء الذين أقصاهم التاريخ، يُعيد الأدب لهم الاعتبار، لأُناس روايتهم هشّة غير مُكتملة أو تُعاني من فجوات. وهذا يُحتّم علينا التساؤل: كيف يُمكننا التحدُّث بـ'طلاقة' عن شيء همُّه الوحيد أن يقوّضكِ؟".

أستمع إلى هذه الكلمات وأسترجع مقال الروائية على صفحات "العربي الجديد"، بعنوان "بين خوفين"، تكتب: "في الحقيقة، كثيراً ما تُدفع اللغة إلى شكلٍ واحد رئيسي، السرد المفهوم، الواضح، والمنطقي. ولكن ماذا لو افتقرَت إلى القدرة على فعل ذلك؛ أيُّ لغة ستبرز حينئذ؟ كيف تستمرّ بالكتابة بلُغة مُهشَّمة أو غائبة؟ جميع هذه الأسئلة سكنتني قبل أن أبدأ كتابة الرواية بكامل عناصرها؛ من جهة، مقتفية شكلاً سردياً للغة يمكننا تقبُّلها، ومن جهة ثانية، مستخدمة شكلاً سردياً نستخفّ به لأننا بالكاد نستطيع الوصول إليه، وربما لا نرغب في الوصول إليه أصلاً".

التخريب واللعب والحضور النسوي لبطلة الرِّواية التي اخترقت "مناعة الأسوار الإسرائيلية"، لتُفتّش في الأرشيف الاستعماري عن حقيقة اغتصاب وقتل فتاة بدوية (قرينة البطلة) بعد عام واحد من النكبة على يد عصابات الاحتلال، كلُّ هذه التّقاطُعات تسوقُها الحلبي خلال عملية تأطيرها سؤال الكتابة عند شبلي، التي تُجيب: "الكتابة في حدّها الأفضل عندي، حين ينعدم وجود الكاتب، فاللغة هي العلاقة غير المرئية بين البشر، أمّا الخيال الذي طالما اعتُبر مجرّد تمرين برجوازي، فهو ضرورة وجودية في حياتنا، نحن نملك القدرة على مقاومة الواقع من خلاله. الأدب والفنّ يَصنعان من المجهول حميمياً".

وعلى مستوى التقنية الكتابية، لفتَت الحلبي إلى "الاقتضاب في لغة 'تفصيل ثانوي'، وبُرود يُشبه لغة التقارير الجنائية، لكن مع ذلك غياب الانفعال لا يعني أبداً غياب العاطفة". وللإجابة عن هذا، تعود شبلي إلى عملها "كلّنا بعيد بذات المقدار عن الحبّ": "هذه الرواية التي كتبتُها بين عامَي 2001 و2004 في ذروة الانتفاضة الثانية وإعادة الاجتياح، ورغم أنّ الحُبّ كان حاضراً في هذا النصّ، إلّا أنني لم أنتبه بشكل قصدي لذلك أمام شخصيّات لا تتحرّك، شخصيات محصورة في حيّزات مكانية معيّنة. لاحقاً تساءلت: لماذا الحبّ؟ ليست الأحاسيس بل غيابها، نحن لا نستطيع الاستسلام لمشاعر التحطُّم اليومي التي يفرضها الواقع الاستعماري، فنلجأ إلى قتْل أحاسيسنا وتجميدها، التي نعود لاستدعائها مجدّداً لحظة الإبداع الكتابي أو صناعة الأفلام بشرط أن تبقى باردة بالفعل، وإلّا سننهار أمام ثقلها".

الصورة
عدنية وزينة - القسم الثقافي
التخريب واللَّعب والحضور النسوي، تقاطعاتٌ ساقتها الباحثة زينة الحلبي (على اليمين) في قراءتها للرواية

الزمن الفلسطيني شغلُ الروائية الشاغل، في الأدب كما في الحياة، ولِوَعْيِه نجدُ شبلي تعود إلى انتشار الرواية في أوروبا بالقرن التاسع عشر، ونشوئها عن فكرة كلّنا في مجتمع ونتحرّك في زمن مُعيّن، ودائماً هناك بداية ووسط ونهاية، تستدرك: "لكن عندما تكونين في مكان مثل فلسطين، ما هي إمكانيات الخيال خاصّتكِ؟ نحن هنا نتعلّم باستمرار، ففلسطين موقف أخلاقي بالنسبة لي، تُعطينا وسائل لما ينبغي علينا أن نكونه أمام العالَم. أمام سردية معروفة للاحتلال تقوم من بدايتها إلى نهايتها على المحو".

هنا نجد الحلبي ترجع إلى "مسَاس" (2002) لافتةً إلى الشخصيات التي بلا أسماء، وبعضها يُعاني من ممارسات قهرية، ترجع إلى مشهد طالب بمدرسة في فلسطين المحتلّة عام 1948، مكتوب على مسطرته اسم فلسطين، تحاول المعلّمة طرده من الصفّ ونزع المسطرة منه. ومنبّهةً إلى "أن فلسطين غير موجودة في مكان واضح، بل مُنبثّة في كلّ الأمكنة".

سردية الاحتلال تقوم من بدايتها إلى نهايتها على المحو

قاد هذا الحديث الروائية إلى استعاداتٍ أبعد حول استحضار فلسطين، انطلاقاً من طفولتها في فلسطين المحتلّة عام 1948، وعلاقتها بالقرى المهجّرة مثل لوبيا والشجرة وسيرين: "كلّ هذه القرى كانت مرابع طفولة وصبا، ولكنّ أسماءها غير موجودة في الشارع، وبالتالي كيف ننتمي إلى هذه الأمكنة؟ لاحقاً، تكتشفين أنّ الشجرة هي قرية ناجي العلي التي هُجّر منها، هذا وحده يُشعركِ بانتماء كبير. هناك إحساس ظلّ يستوطن النفوس حين زيارة هذه القرى المهجّرة، هذا أول تمرين لي في اختراع المسرح. طريقة للوجود في المكان. وبالتالي أنا لا أكتب عن فلسطين بل من فلسطين وعنها".

الصورة
تفصيل ثانوي - القسم الثقافي

لا يطال المحو المكان والإنسان دوناً عن اللغة، وبالتالي هناك هَمٌّ وقلَقٌ على العربية، عند شبلي، من التعرُّض للمحو، كما تُنبّه المُحاوِرة، إلى حدّ يطغى فيه الفصيح بشكل قوي على حساب العامّية التي تظلّ جزءاً من استراتيجية السرد الكلّية، في المقابل وأمام حالة العنف الاستعماري المُطبِقة، ماذا يبقى للكاتب من لغته، وأيّ علاقة ناظمة تجمعه بها؟

تردّ شبلي: "إننا بما نفترضه من حمولة القلق والخوف في لغتنا، لا يُمكن لنا أن نصدّق 'متانة' اللغة الاستعمارية و'بلاغتها'. جرّبي أن تلتقي فلسطينياً واسأليه: 'شو صار معاك هاليومين؟'، يستحيل أن يُجيبَك بالفعل عن حاضره القريب، هو سيردّ عليك من خلال ما جرى مع البلاد منذ القرن الثامن عشر على أقلّ تقدير. أنتِ لا تستطيعين أن تعرفي أين لحظة البداية من كلّ هذا. نحن نستعيد هذه الحالة جماعياً اليوم في سياق قراءتنا عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التاريخ الذي تسبقه تواريخ استعمارية طويلة ومديدة جداً، لدرجة أنه لا يمكن البدء والانتهاء فيه فحسب! في عالم البحث الجنائي، عادة ما يتابعون الجريمة من وجهة نظر المُجرم، لكن لو توقّفنا وأردنا أن نأخذ نقطةً من وجهة نظر الضحيّة، فأيّ شكل ستكون عليه القصة. نفس المكان ونفس الجريمة، ما تغيّر هو أن الوقت قد مرّ".

وختمت صاحبة "تقويض المثقّف العربي: النبوّة، والمنفى، والوطن" ("منشورات جامعة أدنبره"، 2017) حوارها مع الروائية الفلسطينية بتساؤل حول إمكانية أن يكون الكاتب حُرّاً أمام توقّعات القرّاء منه. لافتةً إلى أنه رغم ما تعرّضت له شبلي من إلغاء في "معرض فرانكفورت للكتاب"، إلّا أنها التزمت الصمت فترة طويلة. والمُقابلات الأُولى التي أدلت بها كانت عبارة عن أسئلة أكثر منها مواقف. وكأنها دعوة لأخذ مسافة بين الكاتب ونصّه.

تُجيب شبلي بكلّ أناة: "لا أعتبر نفسي كاتبةً بقدر ما أُمارس الكتابة، أقصى سعيي ألّا تكون بيني وبين اللغة علاقة عنف، وليس صعباً بالنسبة لي أن أُخيّب توقّعات الآخرين، بل أكون سعيدة في ذلك. العلاقة بالآخرين وباللغة اهتمامٌ ورعايةٌ وعَوْن، سوى ذلك تكون محض سلطوية لا أفكّر فيها. وما أتوقّعه من نفسي أفعلُه مباشرة، لا داعي لأنتظر. أحبّ اللغة، سوى هذا الرابط وهذا الشكل لا أستطيع أن آمُرَها لتُطيعني. وبالتالي، بلاغة السارد ليست نفسها بلاغة مُضيفِي الطيران المُعدّة سلفاً، بل قائمة على جدليّة الكتابة والمحو التي لا تنتهي. أنا حتى اليوم ما زلتُ أفكّر بالوضوح الذي يُعبّر فيه الناس عن أنفسهم، وأتساءل: لماذا استغرقني الوقت 12 عاماً حتى كتبت 'تفصيل ثانوي'، هذا تمثيل للفكرة التي قلتها بداية أنّ الفلسطيني يغرق في أيّ التواريخ سيبدأ".
 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون