شواهد جمال لا يرتاح: يوميات طبيب متدرّب 2-3

شواهد جمال لا يرتاح: يوميات طبيب متدرّب 2-3

13 يونيو 2016
فرانسوا مورلي/ فرنسا
+ الخط -

(24 مارس 2015)
مرة أخرى أنسى السماعة. (أتوقّف عن الكتابة. أقف وأقترب من رفوف الخزانة. إنها معلّقة بجانب كتب الشاعر روبيرتو بولونيو والشاعرة أليخاندرا بيثارنيك. لونها رمّاني. أضعها في الحقيبة. وأواصل الكتابة).

أصِل إلى العيادة في الساعة التاسعة وسبع دقائق وأفتح الكتاب المختص بالدمويات على الصفحة التي حدّدت وأنا في الحافلة. ما زلت أقرأ عن سرطان الدم النخاعي المزمن. يصبح الاقتراب نظرياً من مرض بسيطاً جداً عندما تضع له وجهاً. اسماً خاصاً ونسباً. أكتب سرطان الدم النخاعي المزمن وأقرأ خوان. 82 عاما. ولد في مايو/ أيار سنة 1932. سيعود اليوم لأخذ الجرعة الثانية من دواء الريتوكسيماب. في المرحلة الأولى يأخذ الأدوية على مدار عدة أيام. وببطء. يتعلّق الأمر بتجنب الآثار الجانبية، وردة الفعل التي يسبّبها المنقوع.

من الضروري التعوّد على السموم. في ما بعد نراه في المقصورة رقم سبعة برفقة بقية مرضانا. إنه نائم. يبوح لنا بأنه لم ينم الليلة الماضية قط. غداً سيعود لوضع البينداموستين. ويوم الخميس، مرة أخرى. تتغيّر المذابح. ويتغيّر من يديرون الإيمان. لكن لا يتغير الإيمان. ولا يتغيّر الانتظار. ولا يتغيّر أيضاً الأمل.

قبل وصول الدكتور باير أقرأ قصيدة قصيرة جدا للشاعرة شانتال مايارْد. لا أريد أن أتغافل عن درعي، الشعر. الصفحة 170. أقلب الركن الأيمن المطوي أعلى الصفحة. أشير إلى البيت الأول."لم يعلّمونا الشك في الأشخاص الطيبين".

يصل الدكتور. أضع الكتب جانباً. اليوم أحضرتُ معي كرّاسة لونها رمادي مفتوح لكي أسجّل ملاحظات بطبيعة الحال.


المريض الأول

أورورا. شعرها قصير وعيناها زرقاوان. يرافقها ابنها. وهو رجل ضخم البنية وجهه مدور وعيناه أكثر زرقة من أمه. تعاني من سرطان الغدد الليمفاوية الغريبي الدرجة الثانية. مرحلة - ارتشاح المثانة- أ - بدون ظهور أعراض- دون ارتشاح نخاع العظم. نقسّم المرحلة الثالثة إلى ستة أجزاء. يكتب لها الدكتور باير متى عليها أن تقوم بالفحص الدوري لعناصر الدم. يتوقف. لا. إنه يصادف أسبوع عيد الفصح. يجب أن يكون قبل ذلك. أفكّر في كمّ السخافة الذي يعنيه شلل المستشفيات في فترات العُطل.

أتخيّل عصفوراً يقطع طيرانه بغتة في السماء. أتصور كيف أن الأرض تستمر في الدوران 30 كيلومترا في الثانية تقريباً، دون أن تعيره اهتماماً بالمرة. وأتصور كيف أن العصفور بعد ثوان يُنكر عدم حركته ويواصل تحريك أطرافه. لا يكترث لكل جزئية من هذا المشهد الذي يحيط به. لا شيء يتطابق. المستشفى هو ذاك العصفور. المرض مثل الأرض، لأنه لا يتوقف. كما هو حال الجَمال، لا يرتاح -Beauty does not rest كما كتبت الشاعرة الكندية آن كارسون.


المريض التالي

يتيم. لا يخصّ الدكتور باير ومع ذلك فإن العصفور الذي يتوقف في عزّ طيرانه أراد أن يضطره للقدوم إلى عيادته. يتساءل هذا المريض بعلامات استفهام كبيرة. لا ترافقه زوجته. بل قَدِم معها، فهي التي تتكلّم عوضاً عنه بينما هو يقوم بألعاب بهلوانية بصَمْتِهِ. ينتظر. قيل له إنه سيبدأ العلاج اليوم. لكن في الحقيقة جسمه هزيل. وعلينا التعامل معه بحذر. لن يبدأ العلاج اليوم. الدكتور باير طلب بالأمس الموافقة على البينداموستين لهذا المريض. شرح لهم الدكتور أن وضع ريتوكسيماب لهذا المريض بالنسبة لنا لا يجدي... سيتأخرون بضعة أيام، ثلاثة أو أربعة أيام لتزويدنا بالدواء.

تتنفس المرأة بعمق وهي تغلق عينيها. عندما تفتحهما يكون فمها قد انفجر كأنه بالون انتفخ كثيراً ووصلت صرخاتها إلى مسامعنا. زوجها لا يزال ملتزماً الصمت. معها حق في شيء واحد. مرّ أسبوعان منذ أن شخصوا مرضه ومنذ ذلك الحين وهما ينتظران العلاج.

أيمكن لأحدكم أن يشرح لي لماذا لم يُطلب هذا الدواء من قبل؟! نحن ننتظر منذ أسبوعين! كل حالة طارئة هو أمر نسبي. الدكتور أيضا معه حق. سيدتي، هذا الدواء باهظ الثمن. يجب أن توافق عليه الإدارة أولاً. يقول الدكتور إن علينا الانتظار إلى أن توافق الإدارة على الطلب. هذا ليس أمراً متعلقاً بي. الدكتور يدافع عن نفسه لأن الذنب ليس ذنبه. هذه الحالة وصلتني بالأمس. أول مرة أرى فيه مرضه كان بالأمس. وأظن أن هذا أفضل شيء بالنسبة له.

ما جرى سابقاً أنا لا أعرفه. لكن هذا ليس ذنبي. أفكر أن هذا الأمر صحيح. وأنه فَعلَ كل ما باستطاعته فعله. لكن أهذا كافٍ حقاً؟ أتساءل. هذا ليس ذنبه؟ ليس ذنبي؟ ليس ذنب نظام ناقص نحن جزء منه؟ في الأخير يهدئها الدكتور. لو كانت المرأة سيارةً فقدت السيطرة، فإن الدكتور سيكون أثر الكبح.

بصوت منخفض، تقول: أنا لا أحملك الذنب يا دكتور، وإنما أريد أن يستمع إليّ أحد. وفعلاً. بين سؤالِ وانتظارِ المريض هناك استماعٌ. هي كلمة لمواجهة الخوف وعدم اليقين ولو كان ذلك بالصراخ. في كلية الطب يحاولون تعليمك ماذا تقول لهم ومقاطع بعينها لتهدئتهم. الإشارات. لا أحد يحدثك عما يحسّون به. ولا عن عجزهم. وعن أن تعود لجسدك وتجد كهرباءه مقطوعة. وعن هول البحث متلمساً عن مخرج وأنت تجرّ وراءك مرضك.

وقت من يجرّب الانتظار لا يمرّ بمثل سرعة من يتحكّم في هذا الانتظار. لكن هذا أيضا لا يمكن تعليمه في قاعات المحاضرات.

[...] اليوم مثل الأمس، نتحسّس العقد المنتفخة لعدّة مرضى. اليوم أجدها من المرة الأولى. من جديد الملاية البيضاء. المقدسة.

تصل لويسا في الساعة الحادية عشر. إنها طبيبة منذ أربع سنوات في قسم علم الأورام. تصادفت معها منذ عدة أعوام في ذلك القسم. أتذكر تعاملها المرهف مع جسد المريض. اليوم أكتشف فاعليتها. فكّها مربع الشكل وتلبس نظارات.

[...]


المريض التالي

سوكورو. 83 عاماً. تعاني المايلوما المتعددة وهي في طور العلاج بVelcade® + Zometa Melfalán + Prednisona.. لديها وخز وتنمّل خفيفين في يدها اليمنى. ومع ذلك ما يقلقها حقاً ليس مرضها وإنما "هذا الغم الكبير الذي أشعر به. أقضي كل اليوم في البكاء".

ماتت ابنتها. تتعاطى Orfidal® (لورازيبام) للنوم و Seroxat® (الباروكستين) للاكتئاب. نقترح عليها أن يقوم طبيبها الرئيسي بتعديل جرعات الباروكستين لها. تتحرّك ببطء وعيناها دائما مبللة. أقول مع نفسي إن الشواهد الحقيقية ليست من الحجر. إنها مصنوعة من لحم غير معصوم من الخطأ وذكريات غير كاملة. كل واحد منا هو شاهدة حية لأمواتنا. ذكرى تضغط على أوتار الواقع. خيوط مترابطة بدون إبرة.

سُئل الشاعر فيرناندو بيلتران منذ فترة عن كيف يسمي الآباء الذين يفقدون ابناً. فأجاب: هم أيضاً يتامى.


المريض الأخير

لاودِلينو. 80 عاماً. يعاني من وجود الغلوبولين الكبروي في الدم، لوالدنستروم. يصعب عليه الجلوس. تقترب لويسا دون أن يعي أحدٌ وتحركّ قليلا كرسيه وتساعده. مُمْتنٌ لها على هذا التصرّف الإنساني. بينما الدكتور باير يصوغ التقرير، نفحصه. بعد فحص دقّات القلب لويسا تهمس لي: يعاني من قَلَس الأَبْهَرِيّ الدرجة الأولى. أنا أواصل تركيز نظري في جلد وجهه المجعد جداً. أخاديد عميقة حيث زرعت الأيام بُذورها.



* شاعر إسباني من مواليد أوفيدو بشمال إسبانيا عام 1992.

** ترجمه عن الإسبانية: إبراهيم اليعيشي

المساهمون