كل صحراء مررت بها

كل صحراء مررت بها

30 مايو 2015
خالد حافظ / مصر
+ الخط -

المرة الأولى التي أرى فيها بعيني المجردة صحراء حقيقية كانت سنة 2005، عندما كُسر السياجُ الحدودي بين قطاع غزة وسيناء المصرية. يومها ركضنا بلا وعي، وبفرح من الساحل إلى الصحراء. كان للصحراء قيمة خلاصنا للحظة.
كل صحراء مررت بها بعد ذلك لم تكن غير مأزق عربي.

كلّ صحراء أحتفل بها في بعض قصائدي أستحضر معها بحثيثة محدّدة صحراء سيناء، وإن كانت الإشارة تعمل على المطلق في ظاهر القصائد. هذه الحثيثة الصحراوية المحددة، تشبهها حجارة معينة في ذاكرتي بعينها أكتب عنها مراراً حين تشغلني الحرية والأذيات والمجازات.

الحثيثة الصحراوية المحددة في كلامي السابق لا تشتغل بنفس التعيين في قصائدي مع البحار والأنهار الحرة حول العالم.

وعلى ذكر الأنهار، شاب صعيدي على حدود العشرين من عمره، كان يعمل في مقهى في أحد الشوارع المتفرعة عن شارع الهرم بالقاهرة، في وقت متأخر من جلستي في أعالي الليل عرف أنني من غزة.

كنت قبل أن أتحدّث إليه سارحاً وأستعيد نظرتي إلى صحراء سيناء التي ملأت روحي بالوضوح وأنا أجلس في سيارة الأجرة المرسيدس القديمة التي أقلتني من معبر رفح إلى القاهرة، إلى محطة "المرج" تحديداً.

الشاب الصعيدي ذو السمرة والمرح من أسيوط، كانت تشرق من فمه، وهو يلهج بحبه لفلسطين، مياه النيل وثمار الغيطان؛ أصرّ ليلتها على أن يستضيفني في أسيوط.

قال: أبوي وأمّي وأخوتي دائماً معكم.
واقترح عليّ أن نسافر معاً في القطار المريض من القاهرة إلى أسيوط.
كنت أنظر إليه وبداخلي فرح وحزن.
وكدت أعانقه لولا امتلائي بالصحراء.

لا أدري ما الذي جاء بصورة هذا الشاب الطيب على خاطري الآن. ربما سر هذا الحنين الممزوج بألم هو حال مصر الآن.
لم أذهب معه، تركته صباحاً متوجهاً، ومتوهجاً بلعنة القدَر، إلى مطار القاهرة الدولي في طريقي إلى بيت ليس بيتي، وهو سافر بالقطار المريض صباحاً إلى بيته.

سافرت بحذاء مجروح
جرحاً لا يرى، تحت نعل فردة.
وبقميص قرميديّ اشتريته على عيبه، لأنني أحببته، من بسطة أمام جدار مقبرة وسط سوق الأربعاء في مدينتي خان يونس.
العيب خدشٌ ذكيّ تحت الكمّ ما كان ليراه من ينظر مباشرة إلى عيني الحادتين .

في مطار القاهرة الدوليّ التقيت سيدة فلسطينية في منتصف الأربعينات، من عكا. كانت متوجهة مع أخيها إلى النمسا.
نظرت إلى عيني مباشرة، وعرّفتها عن نفسي.
وعانقتني بصحبة لعنة بنبرة حميمة: "ولك يا غزاوي".
كنت أريد أن أبكي.

ودخل على الخط أخوها الثرثار. دعتني لأشرب معهما القهوة.
كان هذا بعد مضايقات أمن المطار لي.
الثرثار حمّلني السلام إلى عبد الباري عطوان بإلحاح شوش على تركيزي بهيبة حضور السيدة العكاوية. قلت له: طريقي ليست إلى لندن.
قال: لتظلّ إذن محتفظاً له بالسلام.
وصلت أرض أوروبا (وهنا قصة طويلة)، بعد أخذي الحقيبة كنت أدور حول نفسي في بهو المطار الواسع على من خرج من الضيّق.
انتبهت إليّ امرأة يابانية مسنة وبسّامة المحيّا.
قالت بالإنجليزية: هل فقدت شيئاً؟
وكان هذا أول سؤال أتلقاه في الغربة بشكل عميق وإن كان في موقف عابر.
أجبتها: أبحث عن المخرج.
وأشارت إليّ بيدها أن من هناك.. وشكرتها.


* شاعر فلسطيني مقيم في النرويج

دلالات

المساهمون