مع غزّة: أحمد محسن

مع غزّة: أحمد محسن

03 ابريل 2024
أحمد مُحسن (تصوير: مارينا ساردينيا)
+ الخط -
اظهر الملخص
- شاعر ومترجم مصري مقيم في كولومبيا يعبر عن تأثير الأحداث في غزة على حياته، متحولاً إلى متابعة الأخبار والمشاركة في فعاليات دعم فلسطين، ويستخدم الكتابة كسلاح ضد الحرب.
- يؤمن بأهمية الفن والإبداع كوسائل لمواجهة الظلم ودعم القضية الفلسطينية، مشدداً على دور كل فرد في النضال من موقعه واستخدام الكلمة لنشر الوعي.
- يحلم بعالم يسوده السلام والتحرر من هيمنة القوى الكبرى، معبراً عن تضامنه مع أهل غزة وأهمية النضال والإيمان بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق الحرية والعدالة.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "من أجل عالَم أرحب من عالم الشمال الذي تعرَّت كذبته منذ 7 أكتوبر"، يقول الشاعر والمترجم المصري المقيم في كولومبيا لـ"العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- هاجسي الوحيد هو أن تنتهي الحرب. الحرب الغاشمة، الحرب الظالمة، الحرب ذات الطرف القذر الواحد. حرب الإبادة. الحرب على أطفال أبرياء. الحرب على إنسانيتنا جميعاً. حربُ الشرِّ المتغلِّب. وأن تنتهي مع الحرب هذه الحقبة الشنيعة من تاريخ الإنسانية. ومع هذه الرغبة الوحيدة والأُولى في أن تنتهي الحرب وينتهي هذا النزيف المستمرّ للدماء والحيوات، رغبة لا تقلّ عنها في الدَّمار. في أن يقع شرٌّ يُنهي هيمنة هؤلاء القتَلة الذي يتحكَّمون في العالَم. وأنا أشاهد التلاعبات الروسية الأميركية الصينية في ما يسمى "مجلس الأمن" مؤخراً، شعرت ببُغضٍ للعالَم وغضب عليه لم أشعر بمثلهما من قبل.

■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أخذت حياتي منحنى مختلفاً، وأُعيد ترتيب أولويّاتها. روتيني اليومي اختلف. لم يُمكنني فعل شيءٍ آخَر عند استيقاظي منذ أكثر من خمسة أشهر سوى رؤية ما ينقله لنا صحافيُّو وشباب غزّة عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي عمّا يحدُث. بدأت موجات غضب تجتاحني على فترات، تجعلني لا أطيق التواصل مع من حولي من البشر. وبعد فترة قليلة حوَّلتُ هذه الطاقة إلى عمل ميداني، فأخذت في تنظيم التظاهرات والتجمّعات المُندِّدة في مدينة بوغوتا، عاصمة كولومبيا، التي أعيش فيها. وبعدها بدأتُ أتّجه لتنظيم الفعاليات الثقافية والفنّية والأدبية لمُناصرة فلسطين. وعلى الجانب الإبداعي، من الأسبوع الأول، كانت الكتابة. سلاحي الوحيد ضدّ الحرب الغاشمة. الكتابة، ثم القراءة في كلّ المحافل التي دُعيت إليها. وقد تلقّيتُ دعوات عدّة من موسيقيّين كولمبيّين لمُرافقتهم في حفلاتهم وإلقاء قصائد ممّا كتبت عمّا يحدث في غزّة منذ السابع من أكتوبر 2023.

أن ينتهي عصر هيمنة الأصابع البيضاء على العالَم


■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- في الحقيقة، لا يُقاوم القوّةَ الغاشمة إلّا قوة مثلها. هؤلاء القتَلة المغتصبون لا يُجبرهم على إيقاف جرائمهم سوى قوّة تغشم بهم. وأظنّ أنّ كلّ كاتب صادق يدرك في لحظات كهذه من تاريخ الإنسانية أنّ الكلمات غبار لا تُسمن الجائع ولا تُؤوي الشريد. لكن، هذا قدرنا. وكلٌّ في جبهته يفعل ما يستطيع. فأنا لا يُمكنني أن أظلّ صامتاً، وليس في يدي سلاح أردُّ به عدوان القتَلة، فما أفعل هو أن أقف وراء المُجاهدين الذين يردُّون هذا العدوان بما يستطيعون، وأن أقف على جبهتي، أَكتُب، وأَقرأ، وأَصرخ، وأُنظِّم، وأُترجم، وأَتحدّث، وأَنشر. وفي عالمي المُحيط أَرى أَثر هذا في أُناس يحتاجونه ليفعلوا أضعف الإيمان، وما هو في وسعهم، ووسعنا.


■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- رغم أن إجابة هذا السؤال قد تبدو مُتعارضة وإجابة السؤال السابق، إلّا أنني لن أختار مجالاً آخر غير مجال الفنّ والإبداع والكلمة. هذا ما وُلدتُ لأجله. وهذا ما أكّدته لي حياتي إلى الآن على هذه الأرض. لقد تغيَّرت حياتي، ولغتي، والأرض التي أسكن، والثقافة التي تُحيطني. لكنّني، على تغيير كلّ ذلك، لم تتغيّر وسيلتي للعيش. تبدَّلت لغتي، لكنَّ لساني هو طريقي للسير في الوجود. وأنا، إذ جعلني العمل الميداني والنشاط المجتمعي في الشهور الأخيرة أقترب ممّن يعملون في العمل السياسي والدبلوماسي، فإنني أتأكّد من رغبتي في الابتعاد عن هذا الطريق في الحياة، دون أن أقلّل منه، لكن كما قال المجاهدون الأوائل: "لكُم دينكم ولي دين".


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا أنتظر، وإنما أريد. فالإرادة تحملني على الفعل، لا الانتظار. أريد أن تتفتَّت قوى الشرّ العُظمى، وأن ينتهي عصر هيمنة الأصابع البيضاء القليلة على العالَم أجمع. أن تتحرّر فعلاً وحقيقةً شعوب العالَم. أن يُمكننا التواصُل في ما بيننا نحن سكّان الجنوب دون الحاجة إلى وساطة الغرب والشمال في هذا التواصل. بعد سنوات من الحياة في أميركا الجنوبية، وحياة سابقة في العالَم العربي، أشعُر برغبة حقيقية في العيش جنوباً وشرقاً، كعنوان كتاب مقالات رحلة أحد كُتّابي المُفضَّلين محمد المخزنجي، وفي أن تنبني جسور بين هذَين الجانبين من العالَم. أن يُمكن لمُعذبّي الأرض أن يعرفوا عالماً أرحب من عالم الشمال الذي تعرَّت قِيمُه الكاذبة منذ السابع من أكتوبر.

أقف وراء المُجاهدين الذين يردُّون هذا العدوان

■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- أمل دنقل. أودّ أن أُقابل أمل، أن أقترب من قلبه، من شرفه، ونُبله، وحميَّته. أن ألتقيه، وأجل بين يديه، أنشده:
"واحدٌ من جنودك يا سيِّدي
قطعوا يومَ مؤتةَ منِّي اليدين
فاحتضنتُ لواءَك بالمرفقين
واحتسبتُ لوجهِكَ مُستشهدي!".
أجلس، وأقرأ عليه القصيدة كلّها، بيتاً بيتاً، أشكو إليه ما كان يشكو. أنظر في عينيه وأستأنس بغضبه، وبثورته، وبعنفوان كلمته. لا يهمُّني العالَم المُنافق. أقولُ له إنّني أنشدُ في الشعر السلاح الذي ليس في يدي، وأصبُّ فيه من روحي، ولحمي، ودمي. أسأله ما نفعل في هذا الزمن القذر، وقد استفحل داءُ تلك العصابة المُجرمة التي تتحكّم بأقدارنا. أنشده:
"واحدٌ من جنودكَ، يا أيُّها الشعرُ!
كُلُّ الأحبَّة يرتحلون
فترحلُ شيئاً فشيئاً من العين ألفةُ هذا الوطن
نتغرَّبُ في الأرضِ".
أخبره عن الغربة، وعن الوطن البعيد، وعن النار التي تتأجَّجُ في الصدور، وأقبِّلُ رأسه، ويده النبيلة.


■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- ليتني كنتُ بينكم. ليتني كنتُ معكم. أجوعُ جوعَكم، وأعطشُ عطشكم. وإنني والله قد مسَّني ما مسَّكم، وقد قُضَّ مضجعي لانقضاض مضاجعكم، وتمرَّر حلقي، وسرتُ في شوارع الدنيا أبكي بلا عزاء. وما منعني عنكم سوى خيانة الخونة، وتحالف العصابات المُجرمة التي تتحكّم في مصائرنا جميعاً. وإنني لا أندم على شيء ندمي أنني لم أزركم في عام 2012 حين سنحت الفرصة. لكن قلبي وعقلي ولساني وحنجرتي من أجلكم. إلى أن تعيشوا مثلما أعيش. ويأمن جانبكم. ويُروى عطشُكم، ويعالج مصابكم، ويردَّ مشرَّدكم. أفديكم، يا أنبل الناس، بما أملك وما لا أملك. 


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- لقد وُلدنا في الزمان الخطأ. وكُتب علينا التشريد، والمنافي، والسجون، وحكم السّفلة والمُحتالين. لكنّنا نعلَم، وإن فشل جيلٌ في تحرير شعوبنا من مستعمريها، فإنّ جيلاً أو أجيالاً أُخرى قادرة على تجاوز هذه الغمّة التي لا يبدو منها مفرّ قريب. وإننا لمستطيعون يوماً أن نتعارف ونتشارك مصائرنا. وإنني كما تعرّفت إلى أبناء وطني في المنفى كما لم أستطع أن أفعل ذلك وأنا في بلدي القريب من بلدانهم، على إيمان بيوم أستطيع فيه أن أزور بلادي بلداً بلداً، وأن يُمكن لكلّ عربي أن يفعل ذلك. وأن تُسمع أصوات شعوبنا الغاضبة والمغلوبة على أمرها الآن، حين تنتفض نجدةً للمُستضعف منها.


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- بروحي أنت يا دارين، نفسي فداؤك. أنا هنا، في نقطة من أبعد نقاط الأرض عنك، أغمض عيني وأراكِ في نفسي. أطبع على خديك قبلة، وأفتح ذراعي وأُعانقك، وأقول لك: أنا كذلك بعيدٌ كلّ البعد عن أهلي، وعائلتي. لكنّني معكِ، أمدُّ لك يدي، أُلاعبك، وأُطمئنك، وأَعدُك بيومٍ نرى فيه سماءً لا تشغلها طائرات الحرب، وأرضاً لا تمتلئ بالدماء. أُحدّثك عن غابات خضراء، وبحارٍ، وأنهارٍ، وصحراوات يُمكننا أن نعدُوَ فيها بسلامة وأمن وعافية. أَغمضي عينيك يا صغيرتي، وتخيَّلي للحظة أكثر ما تمنَّيتِه يوماً، واعلمي أنك ستعيشينه، وأنّ الحرب ستنتهي، أُقسم لكِ، وسنلعب غير عابئين بظُلم العالَم وظلماته.


بطاقة

شاعر ومترجِم مصري من مواليد القاهرة عام 1995، مُقيم في كولومبيا منذ عام 2019. يكتب الشعر بالعربية والإسبانية، إلى جانب المقالة وأدب الرحلة. صدرت له بالإسبانية مجموعة بعنوان "أوراق المنفى" (2022/ الصور). من ترجماته إلى العربية: "سبع طُرق لقول تفاحة" (2022) لـ بنخامين برادو، و"الواقعون" (2023) لـ كارلوس مانويل ألباريس، و"الكلبة" (2023) لـ بيلار كينتانا، كما تصدر له قريباً ترجمة رواية "ما لا اسم له" لـ بييداد بونيت. 
 

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون