رواية الصورة

رواية الصورة

02 ابريل 2015
هذه ليست روايتي بل هكذا كانت رواية الصورة (Getty)
+ الخط -

يقف وحيداً، لا أحد غيره هنا. ينظر نحو المكان الذي يجلس عليه المتفرجون عادة، رأسه مرتفع قليلاً رغم أنّ أشعة الشمس تواجهه، كرسي الملك في المنتصف ينتظر أن يجلس عليه آخر الملوك وأعظمهم، يحمل بندقيته بيده اليسرى تاركاً اليد اليمنى حرة كما تشاء فتكاد تلامس جسده، رأسه مغطى بوشاح أسود، وفي البعيد تظهر الأعمدة التي تعتلي المدرج واقفة شامخة كما كانت، وكما ستبقى، إلا إن شاء أحد براميل بشار الأسد غير ذلك، أو إن شاءت إحدى مطرقات داعش أن تهدمها خوفاً من عبادة جديدة تقدس الأعمدة.

لحظة سرمدية، توقف الزمن هنا بل نقول بدأ الزمن هنا وانتهى هنا، في تلك الثانية التي ضغط فيها ذاك المقاتل على المكان المخصص لالتقاط الصورة في هاتفه المحمول توقف كل شيء. أيّ شيء خارج هذا الإطار لم يعد مهماً، كل ما تريد أن تراه موجود هنا، إنّها صورة تختزل كل مشاعر الفخر والعزة والكرامة والشهامة والنصر.

إنّه "المصارع"* السوري، المقاتل مجهول الهوية. ربما لو كان ينظر إلينا ولم يعطنا ظهره لكان الأمر مختلفاً. لكنّه غائب الملامح غير معروف الوجه، إنّه كل فرد حَلِم بالكرامة. إنّه حلم كلّ فرد بإنهاء احتلال إيراني نصف معلن، حلم كلّ فرد بأن يعيش حرّاً كريماً في أرضه وبلاده دون وجود سلطة دكتاتورية تغتصب حياته كل ما أرادت ذلك.

الضوء يضرب يمين وجهها بجانب قاذف الصواريخ الصغير المحمول على كتفها الأيمن والتي تحمل عليه أيضاً حقيبتها التي تبدو ثقيلة، واضعة بندقيتها على كتفها الأيسر استعداداً للذهاب إلى المعركة، في معصمها الأيسر ساعة، عنقها خالٍ من أي عِقد، يظهر طرف كنزتها البنية من تحت ثيابها العسكريّة المموهة، تقف خلفها مجموعة من الشبان المقاتلين الذي يستعدون للمعركة أو ممن يستريحون بعد شوط طويل من القتال.

ابتسمت للعدسة المتوجهة نحوها فربما تكون هذه صورتها الأخيرة التي ستعلقها أمها في صالة بيتهم، وتكتب في أسفلها "الشهداء لا يموتون"** تفتخر بها أمام ضيوفها وتبكي أمام الصورة حين تكون وحيدة. ابتسمت وكأنها تتلقى غزلاً من حبيب احمرت له وجنتاها. عيونها ضيقة، وخدودها كبيرة تشتهي أن تقرصها، أنفها كبير كمعظم ورد هذه البلاد، تبدو قبضتها قوية كما تبدو واثقة من نفسها إلى أبعد حد.

إنها الحسناء السوريّة، سيدة المكان والزمان، إنها صورة كل امرأة كردية حاربت من أجل شعبها منذ عقود طويلة، إنّها صورة قريبتي التي استشهدت وهي تحارب ضد مجموعة إسلامية على أحد خطوط النار، إنها صورة جدتي حين قاومت بجانب زوجها فضربها أحد رجال الأمن ودهس رأسها بقدميه أمام أعين صغارها، إنّها صورة كل امرأة تحلم بانتزاع حقوقها ولا تنتظر رجلا أن يعطيها إياها، إنها صورة لا تتكرر صورة تراها في العمر مرة واحدة فقط.

إنّه يركض وسط الخراب، أرض الشارع مليئة بشظايا الانفجارات والأخشاب والحديد المتساقط من نوافذ البيوت التي لا يظهر منها إلا الجزء اليسير. هو يركض بكل ما يستطيع من قوة، قدمه اليمنى مرتفعة أكثر من اليسرى وكلاهما لا يلامسان الأرض وكأنّ به يتحدى الجاذبية هذا المقاتل. الضوء يأتي من الخلف كما الغبار الناجم عن انفجار حدث للتو خلفه. الضوء يلامس العتمة عند جدران البناء نصف المهدم.

فردة حذاء متسخة تظهر على يمين الصورة في المقدمة، ويظهر المقاتل الذي يقفز بثيابه العسكرية الكاملة في منتصف الصورة أقرب إلى الجهة اليسرى حاملاً قاذفة صواريخ صغيرة (آر بي جي) على كتفه الأيمن، ملامحه غير واضحة تماماً لكن يمكن القول إنّه شاب في أوائل العشرينيات من عمره، يبدو نحيلاً لكنّه قوي البنية يركض بقوة هارباً من شظية قد تودي بحياته.

إنها صورة الخراب السوري، صورة الدمار المحتم، صورة كثير من الشوارع في كثير من المدن، إنّها صورة من حمص أو حلب أو ريف دمشق لا يهم، إنها صورة الوطن الذي يقتل شبابه أو يعتقلهم أو يهجرهم، إنها صورة الدمار والفقدان، إنها صورة شاب فقد كل شيء ولم يبق له إلا القتال، إنّها صورة فقدان الأمل.

كأنّها مشهد سينمائي، انفجارات في الخلفية وألوان متداخلة من السواد الأشد حتى قبل البياض بقليل، فوارغ رصاصات متطايرة في الهواء وفي الأرض آلاف من هذه الفوارغ وبعض الأوساخ. معطف في المنتصف ملقى على الأرض متموضع أمام مقاتل يصوب بندقيته نحو يمين الصورة أي إلى الأمام.

نرى في الصورة يمين جسد المقاتل الأسمر صاحب الوشاح الأحمر والأسود، يرتدي بنطالاً عسكرياً وكنزة نص كم زرقاء ممسكاً برشاشه المتوسط كما يبدو ويطلق النار على العدو في الطرف الآخر. في هذه اللحظة المقاتل لا يفكر بشيء خارج حدود ما يراه. ما وجه الشبه بين الحرب والجنس وكرة القدم؟ كل شيء متشابه من التحضيرات والخطط حتى انعدام التركيز في لحظة الفعل نفسه ونسيان العالم الخارجي بأكمله وحصر الاهتمام الكامل باللحظة الحالية فقط.

إنّها صورة الحرب، صورة سورية اليوم. إنّها صورة الموت. إنها صورة المقاتلين السوريين، إنها صورتهم كلهم، كلهم متشابهون في هذه اللحظة، لحظة الحرب. إنّها صورة كل من يقاتل فوق هذه الأرض التي تسمى بالأرض السوريّة. إنّها صورة كلّ الحروب مهما اختلفت، إنّها صورة كلّ مكان وكل زمان. هي صورة قد تراها كل في أرشيف كل الدول التي عاشت حروباً وستراها في المستقبل عند الدول التي ستعيش حروباً جديدة. إنّها صورة كلّ يوم في هذا العالم. إنّها صورة الحرب السوريّة اليوم.

صورة للحرب وأخرى للدمار والخراب وصورة للحب وأخرى للكرامة والعزة، صورة للدماء وصورة للحياة، صورة للفخر وصورة للذل، صورة الموت تقابلها صورة للحياة، لكل شيء صورة، وكلّها صور سورية. هل تتسع سورية لكل هذه الصور؟ أكلّها صور سوريّة؟ وأكثر من ذلك، كل ما سبق هو سورية.

سورية هي الثورة والأم والحب هي الخراب والدمار والذل والحرب والأزمة والهروب والنزوح واللجوء والمستقبل المشرق ووو.. إلخ. كلّ ذلك وأكثر، كلّ ذلك سورية، هذه ليست روايتي بل هكذا كانت رواية الصورة.

*المصارع نسبة إلى فيلم المصارع أو المجالد Gladiator

** الشهداء لا يموتون مترجمة من اللغة الكوردية Şehîd namirin


(سورية)

المساهمون