في نقد مصالحة ميّتة

في نقد مصالحة ميّتة

29 مارس 2015
سهيل سالم، 220 × 100 سم، غزة 2014
+ الخط -

إن المصالحة الفلسطينية الداخلية باتت ترقد على سرير الموت، وليست المحاولات القليلة التي تهزها، مثل اتفاق الشاطئ أو تشكيل حكومة الوفاق أو "زيارة" الحكومة لغزة، إلا ناتجة عن الضغط البائس على صدر الميّت لعله يفيق. إن قراءة نقدية لمسيرة المصالحة، تعكس حالة العجز الفلسطينية الداخلية، وتدلل على واقع الحال الفلسطيني أيما دلالة.

من المؤكد أن المصالحة بصيغتها الحالية لم تعد صالحة. ويبدو أن ثمة مأسسة واضحة لعملية الانقسام في بنية النظام السياسي، لدرجة بات فيها الانقسام جزءاً أصيلاً ومكوناً لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن النظام السياسي. بل إن الصيغ التي تُطرح للخروج من قتامة اللحظة الراهنة تعكس رغبة، بل في بعض الأحيان حماسة، في التكيّف مع إفرازات الانقسام على الأرض وفي تأبيده.

تشبه عملية المصالحة، التي تغط في سبات موت إكلينيكي، عملية السلام. لاحظ استخدام مصطلح "عملية"، وهو التوصيف الأثير للإدارة الأميركية للإشارة للمفاوضات بين "الفلسطينيين" و"الإسرائيليين".

فـ"مسيرة السلام" التي ظنّ البعض أنها لن تطول أبعد من انتهاء الفترة الانتقالية، احتفلت ببلوغها العشرين عاماً. والمصالحة التي ظنّ بعضهم أيضاً أنها مجرد جولة حوار في القاهرة ويتم تطبيب الجراح، ها هي تبلغ عاماً بعد آخر دون أن تؤتي ثمارها.

الأهم في كل ذلك، إن نتائج العملية ليست مهمة بقدر أهمية استمرار العملية ذاتها. يمكن الظن أيضاً - بما أننا استخدمنا كلمة الظن كثيراً - أن الأمر مجرّد صدفة، غير أن السذاجة عدوة المصالح.

وفيما لا يمكن تخيّل لحظة أكثر سوداوية ينغلق فيها الأفق أمام الفلسطينيين أكثر من تلك الراهنة، فإن الحل الوحيد الممكن أمام الفلسطينيين، والمتمثل في تجسيد المصالحة، يغدو مع الوقت أكثر بعداً، والطريق إليه أكثر وعورة.

وبعد عدوان إسرائيل على قطاع غزة في صيف 2014 وتدميرها لعشرات آلاف المباني والمنشآت وقتلها لـ 2174 شهيداً وجرحها لأكثر من عشرة آلاف مواطن، وعمليات التهويد المستمرة في الضفة الغربية والإجراءات القاسية بحق المدينة المقدّسة سكاناً ومكاناً، والتوسّع السرطاني للاستيطان؛ ورغم استبسال الشعب الفلسطيني سواء من خلال مقاومته الباسلة في قطاع غزة خلال العدوان أو تصديه ومواجهاته مع قطعان المستوطنين والجنود يوماً بيوم في الضفة الغربية، إلا أن ثمة واقعاً لا يمكن النظر في أفقه بعيداً وتبصر المستقبل.

فالمقاومة الفلسطينية دون وجود أجندة سياسية متفق عليها، تتحوّل مع الوقت إلى عمليات دفاع عن النفس وردّات فعل على تصرّفات الاحتلال. كما أن المسار السياسي المغلق والمفاوضات التي لم تعد تجدي لن ينجحا في جلب أي شيء للشعب الفلسطيني ما لم يتم تفعيل كل أدوات النضال التحرّري بغية تحقيق صلابة ميدانية تدعم الموقف السياسي. المؤكد أن مثل هذا لن يتحقق طالما كانت الوحدة الوطنية معطلة وغير منجزة.

وإذا كانت المصالحة لن تُنجز عبر الاتفاقات العلوية بين التنظيمات، فإن الأمل الوحيد المتبقي لإنجازها يظل عبر إرادة شعبية تضغط على صدر المريض الميت لعل الحياة تدبّ فيه. إن واحدة من أهم إخفاقات العملية الوطنية الداخلية هي تحييد المكوّن الشعبي كعنصر ضغط.

ولعلّ الوقود الحقيقي لحرائق الانقسام، هم هؤلاء المواطنون الموزّعون بين شباب عاطل عن العمل، وعمّال مهرة لا يجدون ما يبلون فيه رمق أطفالهم، وطلبة ومرضى عاجزين عن الخروج عبر المعابر، وهم أصحاب المشاغل والمصانع المعطلة بسبب عدم توفر المواد الخام، وهم المزارعون والصيادون والحرفيون وغيرهم. كل هؤلاء ظلوا على هامش النقاش، كأن الأمر لا يعنيهم.

وتدريجياً، بدت عملية المصالحة كأنها صراع آخر، بل تحوّلت إلى جزء من الانقسام. ويمكن لمتتبع لمسيرة المصالحة أن يقف على عشرات الشواهد التي تشير إلى هذا التحوّل الذي هيمن خلاله خطاب اشتغل على تأبيد مفردات الانقسام في الوعي العام وتطوير تفسيرات انتقلت من الحيّز الحزبي إلى التمثيل الذهني.

لقد تعذّر، عبر السنوات الثماني الماضية، إنجاز المصالحة بفعل قوى ذاتية، ناهيك عن إمكانية استحضار تأثير القوى الإقليمية في ذلك. لكن المؤكد أن ثمة رغبة فلسطينية غير ناجزة، فكيف لها أن تنجز شيئاً خارجها؟ إن ما يفتقد اليوم لتحقيق "المصالحة" وبعثها من موتها هو الإرادة، التي لا تتوفر للأسف!

(غزة)

المساهمون