مهن يدوية تتحدى الزوال في إدلب

مهن يدوية تتحدى الزوال في إدلب

09 مارس 2022
يعمل في صناعة المكانس (العربي الجديد)
+ الخط -

تشتهر مدينة إدلب بالكثير من المهن اليدوية التي يكافح أصحابها للحفاظ عليها من الاندثار على الرغم من المصاعب والمعوقات من جراء هجرة الأيدي العاملة وارتفاع أسعار المواد الأولية وصعوبة تأمينها. ورغم الحرب، ما زالت صناعة الفراء حاضرة في إدلب بمختلف الأحجام والألوان، بسبب توفر المادة الأساسية في هذه الصناعة التي تعتمد على فراء الخراف أو الماشية عموماً.
نزح أحمد الخلوف (35 عاماً)، من منطقة معرة النعمان (جنوبي محافظة إدلب)، إلى قرية دير حسان القريبة من الحدود التركية، وما زال يعمل في مهنته الأساسية التي ورثها عن والده في صناعة الفراء، ويقول لـ"العربي الجديد": "أعمل بهذه المهنة منذ أكثر من 20 عاماً، ولم أتخل عنها بعد النزوح كونها مصدر رزقي الوحيد"، يضيف: "أعتمد في تصنيع الفراء على جلود الخراف. بعد شرائها من الأهالي أو الجزارين، أقوم بتمليح الجلد وتيبيسه، ثم تأتي مرحلة الغسيل من خلال النقع بالماء، حتى يتحول إلى اللون الأبيض باستخدام مادتي الملح والشبة، ثم نتركه تحت أشعة الشمس بعد ذلك حتى يجف تماماً، لننتقل إلى مرحلة تطويع الجلود من خلال البَشْر والتليين والقص والتمشيط، وتصبح بعدها جاهزة للتفصيل". 

ويشير الخلوف إلى أن "لون الفروة كان قديماً محصوراً بالأسود. أما حديثاً، فقد دخلت ألوان إضافية، كاللون البني وتدرجاته والفضي والذهبي وغيرها"، ويقول إن "أهم الصعوبات التي تواجه العمل هي ضعف الإقبال على المنتجات نتيجة ارتفاع أسعارها، ما أدى إلى انخفاض كبير في عدد الحرفيين العاملين بها، وهجرة كثيرين إلى خارج البلاد، بالإضاقة إلى غلاء الأقمشة والخيوط، وإغلاق طرق التصدير إلى دول الخليج، بالإضافة إلى منافسة الفرو الصناعي الأقل جودة والأرخص ثمناً، ولكن من يلبس فروة طبيعية لن يشتري تلك الصناعية القليلة الجودة، فهي لا تمنح لابسها دفء الفروة الطبيعية"، بحسب تعبيره.

ويؤكد أن أسعار العباءات تختلف بحسب الوزن والطول والصوف، كما يختلف نوع القماش المستخدم في طبقتها الخارجية والتطريز والتفريغ، بالإضافة إلى نوعية الصوف الذي يختلف باختلاف عمر الخروف ونعومة صوفه. ويعتبر الفراء الناعم العالي الجودة هو المصنع من جلود الخراف ذات الأعمار الصغيرة، حيث يعطي نعومة ودفئاً أكبر.
من جهته، يقول يوسف حربا (61 عاماً)، من مدينة إدلب، إنه لا يستغني عن العباءة التي ابتاعها من محل لبيع الفرو في السوق الشعبي، لا سيما بحكم عمله كبائع متجول يقضي معظم وقته في الشوارع والطرقات على الرغم من البرد والمطر. ويضيف حربا في حديثه لـ"العربي الجديد": "أضطر للعمل للإنفاق عليّ وعلى زوجتي. لذلك، لا تفارقني العباءة طوال فصل الشتاء، فهي أفضل ما يمكن ارتداؤه للوقاية من البرد القاسي، فضلاً عن أنها تمنح من يرتديها هيبة وأناقة".

الصورة
المهن اليدوية تكافح في إدلب (العربي الجديد)
المهن اليدوية تكافح في إدلب (العربي الجديد)

من جهة أخرى، تعتبر صناعة مكانس القش من الحرف اليدوية القديمة التي توارثها الأبناء وما زالوا يحافظون عليها من الاندثار على الرغم من انتشار المكانس البلاستيكية والكهربائية. كان كمال خربوط (55 عاماً)، الذي يتحدر من مدينة إدلب، يحمل أعواد القش بين بيديه ليحولها خلال دقائق إلى مكنسة بحرفية وإتقان، ويقول لـ"العربي الجديد: "ورثت هذه المهنة عن والدي، وأعمل فيها منذ أكثر من 30 عاماً، وزاد الإقبال عليها في زمن الحرب من جراء ندرة الكهرباء واستغناء كثيرين عن المكانس الكهربائية".
ويبين خربوط أنه يستخدم في عمله أدوات يدوية بسيطة، منها المسلة، والقالب، والخيطان. أما المادة الأساسية فهي نبتة "المكنس" التي يتم جلبها من حقول سهل الروج وسهل الغاب، حيث تزرع بكثرة، مؤكداً أنه يصنع كل يوم حوالي 5 مكانس من القش بأحجام مختلفة، ويبيع كل منها بمبلغ 25 ليرة تركية.
ويشرح خربوط آلية العمل قائلاً: "أبدأ العمل بنقع القش بالمياه لإكسابه ليونة تسهل علينا التحكم به، وأجمع القش ضمن حزم متساوية العدد، ثم أوزع القش بشكل متناسق حتى تأخذ المكنسة شكلها لتبدأ بعد ذلك عملية خياطة المكنسة بواسطة خيوط بلاستيكية متينة لشد القش بعضه إلى بعض، وبعد ذلك يتم قص نهايات القش لتصبح متساوية الطول".
وحول عملية تصريف البضائع، يشرح الحرفي: "في السابق، كانت بضاعتنا تُصدر لدول عربية، مثل الأردن ولبنان وحتى إلى محافظات دمشق وحلب، لكن مع انقطاع الطرقات وبسبب الحرب، أصبح البيع محلياً فقط".

الصورة
ورث كثيرون صناعة الفراء عن أهلهم (العربي الجديد)
ورث كثيرون صناعة الفراء عن أهلهم (العربي الجديد)

ومن أبرز الحرف التي صمدت في وجه الحرب هي حرفة النسيج اليدوي، التي بقيت تتحدى الآلات النسيجية، وتشتهر برونقها الذي يظهر بجودة الملابس والمد المنزلي العربي. ويتميز حرفيّو إدلب بإبداعهم في هذه الصناعة، ومنهم فؤاد طماع (40 عاماً)، من مدينة أريحا، الذي يجلس خلف آلة النول الخشبي لنسج بساط من الصوف بمهارة عالية، ثم يخرج من بين يديه قطعة متكاملة كتحفة فنية .
ويعمل طماع بهذه المهنة منذ أكثر من 20 عاماً، وتابع عمله بها رغم ظروف الحرب وصعوبة تأمين الاحتياجات. وعن عمله، يقول لـ"العربي الجديد": "عندما كنت صغيراً رأيت أبي وجدي يعملان بهذه الحرفة فأحببتها وأتقنتها، وهي لا تزال في نظري بمثابة تراث قديم علينا أن نحافظ عليه من الزوال مهما كانت الظروف". 

الصورة
ما زالت صناعة الفراء حاضرة (العربي الجديد)
ما زالت صناعة الفراء حاضرة (العربي الجديد)

وعن الفرق بين النسيج اليدوي والصناعي، يؤكد فؤاد أن اليدوي أمتن وذو سماكة أكبر، ويبقى محافظاً على جودته عشرات السنين، ولكن ظروف الحرب أدت إلى تراجع عدد العاملين في هذه الحرفة وقلة عدد آلات النول من جراء منافسة المصانع الآلية ذات الآلات الحديثة، وصعوبة تأمين المواد الأساسية، ويقول: "في السابق، كنا نصدر منتجاتنا إلى دول عدة، منها لبنان والسعودية، كما نعتمد في تصريف المنتجات على السياح الذين يطلبون قطعاً من القماش أو السجاد قبل مغادرتهم البلاد، ولكن بعد الحرب، باتت المهنة تواجه صعوباتٍ في التسويق، فضلاً عن ارتفاع أسعار خيوط البوليستر والحرير والصوف  والمخمل اللازمة للتصنيع"، يضيف: "ما زال بعض الزبائن حتى اليوم يسعون وراء هذه النوعية من المنسوجات التراثية. لذلك، نعمل بحسب الطلب ضمن منطقة إدلب، حيث يقوم الزبائن بتحديد عدد القطع المطلوبة وطبيعة النقوش ويتم الاتفاق على السعر، ومن ثم نعمل على تصنيعها وتسليمها".

ويلفت إلى أن العمل بهذه الحرفة يحتاج خيالاً فنياً وقدرة على تذوق جمال الألوان وتناسقها لإنتاج أشكال فنية متكاملة ومتناسقة، بالإضافة إلى الصبر والدقة. وهما صفتان تكتسبان منذ الصغر وبالتدريب المستمر. وعرفت محافظة إدلب بحرف تراثية تقليدية ورثها الأبناء عن الآباء، تكشف أصالة العمل اليدوي، وما زالت، رغم ظروف الحرب، تنبض بالحيوية والجمال، وتعكس مهارة ودقة صانعيها.

المساهمون