"العربي الجديد" يرصد الكارثة الإنسانية في السودان بعد السيول المدمرة

"العربي الجديد" يرصد الكارثة الإنسانية في السودان بعد السيول المدمرة

الخرطوم

عبد الحميد عوض

avata
عبد الحميد عوض
22 اغسطس 2022
+ الخط -

ضربت السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة 6 ولايات سودانية، هي نهر النيل، والجزيرة، والنيل الأبيض، وغرب كردفان، وجنوب دارفور، وكسلا، ولقي ما لا يقل عن 79 شخصاً مصرعهم، كما أصيب المئات، فضلاً عن انهيار أكثر من 30 ألف منزل، وعشرات من المرافق العامة، وخسائر غير محصورة طاولت الأراضي الزراعية.

لكن منطقة "المناقل" كانت من بين الأكثر تضرراً، إذ غمرتها كميات هائلة من مياه السيول القادمة من ولاية سنار القريبة، في واقعة لم تحدث على هذا النحو منذ أكثر من 50 عاماً، لتغرق المياه القرى والبلدات، وتهدد بانهيار كثير من منازلها الطينية.

وقال وزير الشؤون الهندسية بولاية الجزيرة أبوبكرعبد الله، لـ"العربي الجديد"، إن الكارثة في المناقل أكبر من إمكانيات الولاية، والتي استنجدت بالحكومة المركزية التي أرسلت مساعدات فنية من وزارة الري للسيطرة على المياه قدر الإمكان، وفتح ممرات آمنة، كما أرسل الجيش وحدات من سلاح المهندسين، لكن هناك صعوبات في الوصول إلى بعض المناطق المتضررة، وعدد المنازل التي تهدمت بالكامل في المناقل تجاوز 3 آلاف منزل.

تجول مراسل "العربي الجديد" في قرية "ود النقير" التي تبعد نحو 18 كيلومتراً من مدينة المناقل، حيث كان الأهالي يحاولون باستخدام معاول يدوية بسيطة كسر طريق الإسفلت المؤدي إلى المناقل، بغرض تصريف الكميات الضخمة من المياه التي تحاصر القرية، لكنها كانت محاولة فاشلة في ظل سيول أشبه بالأنهار المتدفقة.

يؤكد عثمان علي، وهو أحد سكان القرية، أنهم يعيشون في خطر حقيقي، وأن القرية قاب قوسين أو أدنى من الزوال نتيجة السيول التي لم تتوقف، في حين أنه لا مجال للمغادرة لأن الطرق كلها مغلقة بالمياه، والحل الوحيد هو الخوض في الوحل للوصول إلى أماكن جافة، محذراً من أن الغذاء بات على وشك النفاد، والقرية تضم نحو 2500 نسمة، وكثيرون حالياً يعيشون على خلط الخبز بالماء كطعام لهم ولأطفالهم.

وأوضح لـ"العربي الجديد"، أنه شخصياً لم يتناول منذ الصباح سوى كوب من الشاي، ويخشى الأهالي من إصابة أي من السكان بأي مرض، أو دخول سيدة حامل مرحلة المخاض، بينما القرية لا يوجد فيها طبيب واحد، ومن العسير الانتقال إلى أي مستشفى قريب. بعد تكسير الإسفلت توقفت حركة شاحنات المواد الغذائية المتجهة إلى المنطقة، وتكررت مشاهد خوض المئات في المياه بأطفالهم، أو بصحبة كبار السن، وكان مشهد حمل شبان مريضاً على سرير في وسط السيول بغرض نقله إلى منطقة جافة تمهيداً لتحويله إلى مستشفى.

الصورة
دمرت السيول مئات المنازل (ديرار ماعد/ الأناضول)

يقول أبوذر عبد المجيد، وهو يحمل رضيعته، لمغادرة قرية "النقير"، إن حجم المياه الحقيقي أضعاف ما نشاهده الآن، وتعرضت مئات القرى للانهيار، وبعضها لا يعلم بها أحد، ولا وجود لوسائل النقل، كما تنعدم الأدوية تقريباً، خصوصاً أدوية الملاريا، والإسهال، والمياه الصالحة للشرب مقطوعة، فضلاً عن قطع التيار الكهربائي، والمنازل التي صمدت خلال الأيام السابقة معرضة للانهيار في أي لحظة نتيجة غرقها بالمياه. مدينة "عبود" واحدة من أكثر المناطق تضرراً بالسيول، وتحاول آليات تابعة لوزارة الري والموارد المائية تصريف المياه فيها لخلق طريق لعشرات الأشخاص الراغبين في المغادرة، أو العودة إلى المنطقة.

عبرت مريم عثمان الطريق الغارق بالمياه بمساعدة عدد من الشبان، وتوضح لـ"العربي الجديد"، أنها خرجت من المنطقة للعلاج بالمستشفى الصيني في مدينة "ود مدني"، مركز ولاية الجزيرة، لكن الطريق لم يكن ميسراً أبداً للوصول.

وفي مدينة "عبود"، لجأت أكثر من 300 أسرة انهارت منازلها إلى المناطق المرتفعة، وبعضها لجأ إلى المدارس، أو انضمت إلى أقاربها في المدينة. يقول عصام الدين خليفة، لـ"العربي الجديد"، إن "ما حدث تجاوز تصوراتنا. لم نفقد منازلنا فقط، بل فقدنا محاصيلنا التي نعتمد عليها طوال العام، ونحتاج إلى خيام إيواء، ومواد غذائية، وأدوية، ونأمل أن تقوم السلطات الحكومية بمهامها، وألا تنتظر تدخل المنظمات الأهلية".

الصورة
ينتظر المتضررون تعويضات لإعادة بناء مساكنهم (فرانس برس)

من جهته، غادر عبد الباقي أحمد عباس (70 سنة)، مدينة "عبود" لأن الوضع حسب قوله لم يعد يحتمل، إذ لا يتوفر الغذاء ولا المياه، والكهرباء مقطوعة، والأخبار التي تصلهم تحذر من سيول هادرة جديدة تضاعف المخاطر القائمة. يحمل عباس الحكومة المسؤولية، ويتهمها بالتباطؤ في دعم المتضررين من السيول والأمطار، مشيراً إلى أن أحداً لا يتوقع حصول المتضررين على تعويضات لبناء ما دمرته السيول.

ويشارك هاشم الخضر، من قرية "مجمع محمود"، في وضع الحواجز الترابية لحماية القرية، وهي جهود يقوم بها شبان كل القرى المحاصرة بالسيول، إذ لا وجود للدفاع المدني، ولا تظهر سيارات الإسعاف، وأشار إلى نفاد المشتقات البترولية في المنطقة، ما يزيد من صعوبة الذهاب إلى الأسواق لشراء الغذاء.

تعد "المناقل" كبرى مدن المنطقة المنكوبة، ومن بين الأحياء الأكثر تضرراً فيها "حي المحافظ"، هناك كان نزار الضي يبحث بين أطلال منزله المنهار، محاولاً استخراج ما يصلح من بين الأنقاض. يروي الضي لـ"العربي الجديد"، تفاصيل اليوم الأول من السيول، حين انتشر نداء لأهل الحي بالخروج من منازلهم إلى شارع الإسفلت الأكثر ارتفاعاً.

الصورة
تحاول الأسر البحث عن ممتلكاتها بين الأنقاض (ديرار ماعد/ الأناضول)

يقول: "تركنا كل شيء وراءنا. حملت أطفالي إلى هناك، وقضينا اليوم كله على الإسفلت، ولما جاء السيل، هدم المنزل، ودمر ما فيه من أثاث وممتلكات، وبعدها انتقلت بقية الأسرة للبقاء مع الأقارب لأننا لم نجد أماكن تأوينا، والمكان الذي جهزته الحكومة بمدينة المناقل يفتقر لكل شيء، بما في ذلك مياه الشرب النقية".

يجلس المواطن حسن إسحق مع أطفاله في ظل شجرة صمدت أمام السيول، بينما انهار منزله، يقول لـ"العربي الجديد"، إنهم حين هربوا لم يحملوا معهم شيئاً، وحالياً لم يبق لديهم شيء، ولا يملك الغذاء لأطفاله الذين يعانون من حميات طوال الأيام الماضية، ويعتمد حالياً على دعم أهل الخير.

لم يتمكن مراسل "العربي الجديد" من الوصول إلى بقية الأحياء المتضررة بمدينة المناقل، لصعوبة الوصول إليها، لكنه وصل إلى ملعب كرة قدم نُصبت فيه خيام صغيرة شيدت من مواد محلية، وخصص لإيواء نحو 150 أسرة متضررة، وكانت الغالبية فيه من النساء وكبار السن والأطفال. في المخيم البسيط، يجتهد شبان لتوفير وجبات طعام بسيطة عبر مطبخ أقيم في العراء، ويعمل بضعة أطباء لساعات محدودة، وبإمكانيات بسيطة على مساعدة الناس، ويشهد مدخل الملعب فوضى متكررة في أوقات توزيع المساعدات التي يوفرها أهل الخير، ولا وجود فيه للشرطة أو أي من القوات الأمنية.

نزح السبعيني سعيد محمد ومعه أسرته المكونة من زوجتين وعدد من الأطفال إلى الملعب بعد انهيار منزله، وهم يعيشون في خيمة بسيطة تضم سريرين، ويشتكي من غياب جميع الخدمات، فلا ناموسيات، ولا علاج، ولا غذاء كاف.

كما لجأت زيتونة عبد الله (50 سنة)، إلى المكان بعد انهيار منزلها، ولا تعرف ماذا سيحدث لاحقاً، خصوصاً مع معاناة كثيرين من الأمراض المنتشرة بسبب تراكم المياه، والنوم على الأرض، مشيرة إلى أن أقصى ما تتمناه حالياً هو خيمة لها ولعائلتها.

الصورة
مخيم بلا خدمات لإيواء المتضررين (فرانس برس)

أما السبعيني إدريس عطا المنان، فيقول إنه فقد كل ممتلكاته بسبب السيول، وإنه يعتمد في الطعام على العدس فقط، والكميات المتوفرة لا تكفي الجميع، ويشير إلى "وجود عصابات في المخيم همها الأساسي الحصول على ما يصل من إعانات ومساعدات غذائية، في حين لا وجود للشرطة لحماية توزيع المساعدات على من يحتاجونها".

مرضت زوجة عبد الرحيم محمد إدريس خلال وجودها في الملعب، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أنه لا توجد أي عناية طبية، ولا قدرة على حتى نقلها إلى المستشفى، ومن الواجب على السلطات الصحية مراعاة الظروف الإنسانية، وتوفير طواقم طبية، ومعينات طبية من معامل وعيادات وعلاج، والاهتمام بالأطفال الذين يعانون من الإسهال والحميات.

ودفع الوضع الصحي في عموم المناطق المتأثرة من السيول لجنة أطباء السُّودان المركزية إلى إصدار بيان، عبرت فيه عن قلقها من بطء الخطوات التي اتخذتها السلطات تجاه الأوضاع الخطيرة، وذكرت أن ضعف الاستجابة تجاه هذه الكارثة الإنسانية يعبر عن عجز السلطة الحالية عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين.

وأشارت اللجنة إلى انعدام المرافق الصحية في القرى والأرياف التي غمرتها المياه، وعدم وجود أرقام محددة لعدد الوفيات والإصابات من جراء السيول، وحذرت من مخاطر ندرة المياه الصالحة للشرب، وانقطاع التيار الكهربائي، وغمر المياة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، ما يؤشر إلى كارثة صحية تتمثل في حميات وحالات إسهال حادة، ونزلات معوية، عدا عن فقدان عدد كبير من الحوامل فرصة الولادة الآمنة، وفقدان المرضى من كبار السن والأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة للعلاج، وإمكانية ظهور الأمراض المعدية والمنقولة عبر المياه.

ذات صلة

الصورة
نادية عبد العال نازحة فلسطينية في شمال قطاع غزة 1 (العربي الجديد)

مجتمع

في يوم المرأة العالمي، انتظرت الفلسطينية نادية عبد العال النازحة في شمال غزة ستّ ساعات قبل أن تملأ غالونات المياه، وتصعد بها أربع طبقات في مركز الإيواء.
الصورة
أطفال سودانيون في مخيم زمزم في ولاية شمال دارفور في السودان (الأناضول)

مجتمع

أفادت منظمة أطباء بلا حدود بأنّ طفلاً واحداً على الأقلّ يقضي كلّ ساعتَين في مخيّم زمزم للنازحين بولاية شمال دارفور غربي السودان بسبب سوء التغذية.
الصورة
تضررت مخيمات النازحين السوريين في لبنان من الأمطار الغزيرة (فيسبوك/الدفاع المدني)

مجتمع

أغرقت الأمطار التي يشهدها لبنان والتي اشتدت أول من أمس (السبت)، العديد من مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان، لا سيما تلك الواقعة في المناطق المنخفضة.
الصورة
ينتظرون الحصول على طحين (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)

مجتمع

يوميات الغزيين قاسية للغاية وخصوصاً للنازحين إلى الجنوب. يومياً، يضطرون إلى الوقوف في طوابير لساعات من أجل تأمين الخبز والمياه والأدوية وغيرها من الأساسيات، وكأن الطوابير هي وسيلتهم للبقاء أحياء

المساهمون