استفتاء كردستان: التحفظ الأميركي محصور في التوقيت

استفتاء كردستان: التحفظ الأميركي محصور في التوقيت

15 سبتمبر 2017
لقاء بايدن والبرزاني عام 2011 بأربيل(سافين حميد/فرانس برس)
+ الخط -
في السادس من مايو/أيار 2015، استضاف "مجلس أتلانتيك" للدراسات والأبحاث بواشنطن، رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، في ندوة بمناسبة زيارته للعاصمة الأميركية. في كلمته، كشف الزعيم الكردي عن النية بإجراء "استفتاء فور هزيمة داعش"، مع التأكيد على أن "الاستقلال آتٍ حتماً وبالطرق السلمية"، ولو أنه لم يحدد موعده.

لم يكن من غير مغزى أن يعلن البرزاني في واشنطن وبهذه الثقة عن مخطط الانفصال الرسمي عن العراق، والذي سيفتتح الإقليم خطوته الأولى في 25 سبتمبر/أيلول الحالي، إذا لم تؤد الضغوط الدولية والإقليمية إلى تأجيل استفتاء الانفصال المرتقب في ذلك اليوم. وهو يدرك أن المناخ الأميركي العام متعاطف أكثر من أي وقت مضى مع هذا التوجه، على الرغم من التحفظات على الإخراج، التي تفرضها محاذير موضوعية ويوجبها النأي عن الظهور بمظهر المشجع على تفكيك الكيانات في المنطقة. فحروب الخارج والداخل وتفاعلاتها على الساحة العراقية والتي كان لأميركا الدور الأبرز فيها، خلقت الإطار الملائم لاحتضان مشروع الاستقلال. كما أن دوائر أميركية عديدة لم تتردد في المجاهرة بتأييدها، بل في دعوتها لاستقلال كردستان.

واكتفاء الإدارة الأميركية في ردها على الاستفتاء، بالتعبير عن "القلق" ولو الشديد حسب تعبير الناطقة في الخارجية وبالدعوة إلى "تأجيله" فقط، هو موقف ذات دلالات واضحة. ودوافع الموقف الأميركي لا تتعلق بمسألة أن مشروع الأكراد يهدد وحدة العراق. فهذه لم تكن يوماً الحيثية الرئيسية في موقف واشنطن من قضية الانفصال. وطلب التأجيل الخجول والذي بدا أقرب إلى رفع العتب، جاء على أساس أنه يؤثر سلباً على المواجهة مع "داعش"، وقد يفاقم من "زعزعة" الأوضاع في المنطقة. ثم إنه يحرج واشنطن أمام بغداد لأنها "وعدتها بالمحافظة على وحدة العراق" وليس لأنها لا تسمح بالتفريط في وحدة العراق. والوعد يتغير، خاصةً في زمن إدارة ترامب.

في الواقع، هذا الموقف هو نتيجة طبيعية لتوجه أميركي بدأ مع خطوة حظر الطيران في شمال العراق بداية تسعينيات القرن الماضي، والذي شكل عملياً، سواء بقصد أو بدونه، بداية التأسيس لتعزيز خيار الانفصال في كردستان. وفي ظلّ حماية الإقليم من القصف الجوي الذي كان ينفذه نظام صدام حسين آنذاك، تمكن الأكراد من "التنفس والالتفات لبناء هيكل الاستقلال"، بحسب ما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في عدد يوم الاثنين الماضي. ثم جاء دستور عام 2005، والذي كتبه رئيس سلطة الاحتلال (الإدارة المدنية للإشراف على إعادة اعمار العراق بعد عام 2003) الدبلوماسي الأميركي بول بريمر، وفريقه، ليمنح كردستان مساحة كبيرة من الحكم الذاتي. وبعد توالي الحروب والتمزيق، برزت لواشنطن أهمية قوات "البشمركة" في المعركة مع "داعش". ثم تعززت هذه الصورة مع الدور الذي أدّته "وحدات الدفاع الشعبي" الكردية السورية في هذه المواجهة، والذي حظي بإشادة عالية في واشنطن.


كل هذه العوامل ساهمت بترسيخ الاعتقاد الأميركي السائد بأن الأكراد "حليف موثوق" في المنطقة وبأنهم طرف "مغبون" تاريخياً. ومن هذه القناعة المعطوفة على حالة الانسداد السياسي في العراق، تنامت الدعوات الأميركية المؤيدة لاستقلال كردستان، وأحياناً المحرِّضة من أجله. تارةً بحجة أن العراق تمزق إلى غير رجعة ولا مهرب من تقسيمه بين مكوناته الرئيسية الثلاثة، السنة والشيعة والأكراد. وكان نائب الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، من أوائل من دعوا إلى ذلك. وتارةً أخرى بحجة أن الأكراد "يستحقون" دولة كقومية بذاتها وكحليف يمكن الركون إليه. ومن بين الفريق الثاني من دفع في هذا الاتجاه بهدف تفكيك العراق، خاصةً بعض رموز المحافظين الجدد مثل السفير السابق في الأمم المتحدة، جون بولتون.

لكن في مقابل التعاطف، هناك مخاوف من الإقدام على هذه الخطوة الحاسمة، في هذا الوقت الذي يمر به إقليم كردستان والعراق وأيضاً المنطقة. فالوضع في الإقليم يشكو من فجوات وعراقيل قد يكون لها تداعيات سلبية خطيرة، على رأسها وضعه الاقتصادي. فمديونيته "تقترب من 20 مليار دولار أميركي". والإقليم لا يقوى على دفع رواتب الموظفين وبعض قواته المسلحة. أما "عائدات النفط في ضوء الانتاج الحالي وأسعاره، فلا تكفي لتمويل إقامة دولة مستقلة"، كما يقول الأستاذ في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة" في جامعة "جون هوبكنز" بواشنطن، دانيال سيرور. وليس هذا فحسب، بل إن هناك عقبات سياسية، إذ "لا تتوفر الموافقة بين القوى السياسية الكردية حول كيفية المضي في الرحلة بعد الاستفتاء"، يقول سيرور. ومثل هذا الخلاف وغيره كات قد أشارت إليه شخصيات كردية، حذرت من المضاعفات في ضوء الواقع الكردي الاقتصادي والسياسي والإداري والأمني. ويقول الإعلامي ورجل الأعمال، شسوار قدير، خلال زيارته لواشنطن في يوليو/تموز الماضي، إن الأولوية الآن للانتخابات وليس للاستفتاء. ويضيف: "لا نظام قضائيا ولا دستور (دستور 2009 لم يدخل التطبيق بسبب رفضه في استفتاء شعبي) ولا وحدة عسكرية (مقسومة بين قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني) ولا ركيزة للاقتصاد سوى صادرات نفطية تمر بأنبوب واحد يمر عبر تركيا التي قد توقف العمل به"، بحسب تعبيره.

وثمة في واشنطن من يشاركه التخوف ولو أن موقفه نابع من معارضته للرئيس البرزاني. ففي ظل الظروف القائمة "ليس من الواضح ما إذا كان من شأن التصويت على الاستفتاء تسهيل استقلال كردستان أم خلق مشاكل تعرقل إقامة دولة كردية"، بحسب المؤرخ أندرو أبوستولو. ويأخذ أصحاب هذا التحذير عامل الجوار "المعترض" التركي والإيراني بعين الاعتبار. كما يأخذون وضع كركوك الحساس في الحسبان، من باب أنه يشكل العقبة العراقية الرئيسية في طريق استقلال الإقليم. لكن ترك باب التفاوض حول وضعها يحمل البعض على الاعتقاد باحتمال التوصل إلى صيغة توافقية، إدارية ونفطية. فالاستفتاء من شأنه "تمكين حكومة الإقليم من التفاوض حول الاستقلال "ككل ومن ضمنه كركوك". وبذلك يكون الاستفتاء "أقرب إلى إعلان نوايا" يقول أبوستولو. والحديث عن التفاوض تشجعه واشنطن ضمناً. فعندما تربط "اعترافها باستقلال أربيل بموافقة بغداد على الانفصال"، تكون في الواقع مع الانفصال المغطّى بقبول بغداد، أو مع أية تسوية يمكن أن يتوصل إليها الطرفان في هذا الشأن، إذا استمر رفض بغداد للانفصال، مقابل إعطائها مكاسب مرضية ربما للأكراد.