واشنطن والسلطة الفلسطينية المتجددة: إصلاح أم فخ؟

واشنطن والسلطة الفلسطينية المتجددة: إصلاح أم فخ؟

25 فبراير 2024
من تصدي قوات أمن السلطة الفلسطينية للمتظاهرين في رام الله (ماركو لونجاري/فرانس برس)
+ الخط -

في سياق السعي الأميركي/ الإسرائيلي إلى الالتفاف على صمود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وضمن تصورات إدارة الرئيس جو بايدن لسيناريوهات "اليوم التالي"، بعد انتهاء حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة، عادت واشنطن إلى ترويج فكرتي إصلاح/ تجديد السلطة الفلسطينية، وتعزيز/ استئناف التطبيع العربي الإسرائيلي؛ إذ تأمل واشنطن عبر دمج الفكرتين، في تعزيز سياساتها في إقليم الشرق الأوسط (في مقابل الأطراف الصينية والروسية والإيرانية وحلفائهم)، توطئةً لتحقيق إنجازٍ في السياسة الخارجية، بما يدعم حظوظ بايدن في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

على الرغم من وجود تغيّر في تفاصيل الطرح الأميركي، لفكرة تجديد السلطة الفلسطينية؛ عبر صيغة حكومةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ، تدير الضفّة الغربية وقطاع غزّة معًا، مع احتفاظ إسرائيل بـ "نفوذٍ أمنيٍ محدودٍ فيهما، وإتاحة أفقٍ سياسيٍ لتشكيل دولة فلسطينية، فإنّ تفكيك جوهر الطرح الأميركي وتحليل السياقيْن الإقليمي والدولي المحيطين به، يكشفان استمرارية مقاربة واشنطن للقضية الفلسطينية.

إنّ متغيرات الانحياز الأميركي لإسرائيل، وتصميم مؤتمر مدريد للسلام أميركيًا (31/10/1991)، ومن بعده أزمات مسار اتّفاق أوسلو، والاحتكار الأميركي لدور "الوسيط الأوحد" في عملية التسوية، خلقت جميعها إشكالياتٍ فلسطينيةً عدّة؛ أولاها؛ تحكّم العامليْن الأمني والاستراتيجي في مسار تطور "الحالة الفلسطينية"، خصوصًا شكل النظام السياسي الفلسطيني، مع تغطية ذينك العامليْن بـ "وعود الازدهار الاقتصادي" أو "السلام الاقتصادي"، الذي لم يتحقق منه شيءٌ، ما خلا مستوياتٍ مرتفعةً من التنسيق الأمني، ناهيك عن الفساد المالي والإداري البنيوي/ الهيكلي، الذي يمثّل جوهر الاقتصاد السياسي لعملية التسوية، التي تقوم على مقايضة تحقيق الأمن الإسرائيلي المطلق، مقابل إغراء الفلسطينيين بـ "الفتات الاقتصادي"، ورمزيات الدولة المستقلة الموعودة.

تبرز مفارقة عجز واشنطن، وهي الحليف الأوثق لإسرائيل، عن الضغط على حكومة نتنياهو لكي تلتزم بالتصورات الأميركية

تتعلق الإشكالية الثانية بالتبعية المالية لمصادر التمويل الخارجية، (أميركي، أوروبي، ياباني، خليجي، مؤسسات دولية.. إلخ)، التي تلعب دورًا كابحًا أمام إمكانية خروج السلطة الفلسطينية عن طوع المانحين، وعن ترتيبات عملية التسوية، في شقيها الأمني والاقتصادي، الرامية لسلب البعد التحرري السياسي في الحالة الفلسطينية، وخلق حالةٍ من التبعية الفلسطينية العميقة للخارج، ما يعني تحليليًّا الالتفاف على نتائج انتفاضة 1987 وآلياتها التي حققت مستوى من الاستقلالية المجتمعية النسبية عن إسرائيل (والالتفاف على تداعيات عملية "طوفان الأقصى").

تتعلق الإشكالية الثالثة بإعاقة اتّفاق أوسلو، وتطور النظام السياسي الفلسطيني، بحكم انتقاله من حالة تحررٍ وطنيٍ إلى سلطة حكمٍ ذاتيٍ انتقاليةٍ محدودةٍ، بحيث يستحيل، تطورها إلى "دولةٍ ذات سيادةٍ حقيقيةٍ، (كما يُلاحظ من إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على رفض قيام دولةٍ فلسطينيةٍ حتّى لو كانت منزوعة السلاح، تحت ذريعة أن قيامها يمثّل مكافأة كبيرة للإرهاب بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023).

أما الإشكالية الرابعة فتتعلق بتداعيات أيّة استجابةٍ رسميةٍ فلسطينيةٍ للسياسات الأميركية/ الإسرائيلية في "تجريم" المقاومة المسلّحة الفلسطينية، أو وصفها بـ"الإرهاب"، على إعادة إذكاء الانقسام الفلسطيني، ولا سيّما حول نهج التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي (المفاوضات أم المقاومة)، ناهيك عن إعادة طرح قضية تمثيل الشعب الفلسطيني، من آنٍ إلى آخر، وتشكيك الأطراف الفلسطينية بعضها ببعض؛ إذ رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (في 15/10/2023)، قتل المدنيين من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ودعا لإطلاق سراح المدنيين والأسرى والمعتقلين من الجانبين، وقال إن سياسات وأفعال حركة حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني، فمنظّمة التحرير الفلسطينية هي "الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".

استطرادًا في تحليل عناصر التصور الأميركي بشأن "تجديد" السلطة الفلسطينية، وبحسب ما نقله موقع أكسيوس (16/1/2024)، عن مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، تقوم استراتيجية إدارة بايدن، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، على ربط التطبيع بين السعودية وإسرائيل بأفقٍ سياسيٍ للفلسطينيين؛ إذ يجب أن تحكم تسوية "اليوم التالي للحرب" أربعة مبادئ، هي: عدم استخدام غزّة لشنّ هجماتٍ جديدةٍ على إسرائيل؛ وأن يكون السلام إقليميًّا، بمعنى بين الدول العربية وإسرائيل، وأن يقود ذلك إلى دولةٍ فلسطينيةٍ، وأن تكون هناك ضماناتٌ أمنيةٌ لإسرائيل.

كما يتضح من تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعد جولته في الشرق الأوسط، يناير/كانون الثاني 2024، أن واشنطن قد عادت لسياسة إدماج إسرائيل في المنطقة، وتشجيع الدول العربية على ضمان الأمن الإسرائيلي عبر نهجٍ إقليميٍ يتضمن مسارًا يؤدي إلى إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ، بوصفه أفضل طريقةٍ لعزل إيران ووكلائها، الذين يسببون المتاعب لواشنطن، ولدول المنطقة.

وبعيدًا من التصورات الأميركية، لا شكّ أن ثمة عقباتٍ أمام مشروع "السلطة الفلسطينية الجديدة"؛ فبخلاف التوافق الأميركي الإسرائيلي، إبان اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي الضفّة الغربية ربيع 2002، في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، ومحاولة فرض الإصلاح المالي والأمني على الرئيس ياسر عرفات (عبر سحب أغلب صلاحياته وتعيين رئيس وزراء)، تبرز في حرب غزّة الراهنة معارضة بنيامين نتنياهو، وأقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومزايداتهم الأيديولوجية، عائقًا حقيقيًّا أمام تنفيذ التصورات الأميركية.

تتعلق العقبة الثانية بتصاعد الوعي الفلسطيني بأهداف واشنطن، وتوظيفها فكرة/ وهم الدولة الفلسطينية؛ إذ أسفرت المواقف الأميركية على مدار شهور "حرب الإبادة" على غزّة (بالتزامن مع تصعيد العدوان الإسرائيلي في الضفّة الغربية والقدس)، عن جوهر سياسة واشنطن لضمان أمن إسرائيل، وتقويض الانتصارات الفلسطينية، ومنع فصائل المقاومة الفلسطينية من قطف أيّ ثمارٍ سياسيةٍ كمحصلةٍ لاستخدام المقاومة أسلوبًا للضغط على الاحتلال، وإعادة ضبط العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية، وحصرها في إطارٍ تفاوضيٍ يسمح باستكمال المشروع الاستيطاني التهويدي في الأراضي الفلسطينية، تحت غطاء المفاوضات، ما يعني تصميم واشنطن على تجديد أوهام اتّفاقات أوسلو، على الرغم من إخفاقاتها الواضحة على مدار ثلاثة عقودٍ.

تلعب دورًا كابحًا أمام إمكانية خروج السلطة الفلسطينية عن طوع المانحين، وعن ترتيبات عملية التسوية، في شقيها الأمني والاقتصادي

استطرادًا؛ تبرز مفارقة عجز واشنطن، وهي الحليف الأوثق لإسرائيل، عن الضغط على حكومة نتنياهو لكي تلتزم بالتصورات الأميركية (سواء في ما يتعلق بالدولة الفلسطينية، أم بإبرام صفقة تبادل أسرى، أم مجرد إقرار "هدنةٍ إنسانيةٍ" لستة أسابيع)، والإصرار الأميركي على إرغام المقاومة الفلسطينية على التنازل عن أبسط الحقوق في الحرية والكرامة، ناهيك عن حقّ الشعب الفلسطيني في اختيار شكل نظامه السياسي، الذي يعبّر عن مصالحه وحقوقه، ولا سيّما "حقّ تقرير المصير"، بعد أكثر من قرنٍ من الإصرار البريطاني/ الأميركي على سلب الفلسطينيين إيّاه.

تتعلق العقبة الثالثة بانعكاسات عملية "طوفان الأقصى" على الصعد الفلسطينية والعربية والإقليمية، التي تفتح الباب أمام تطوراتٍ دراماتيكيةٍ، قد تصل إلى خروج قضية فلسطين، والنظام الإقليمي في الشرق الأوسط إجمالًا من ربقة الهيمنة الأميركية/ الإسرائيلية، ولا سيّما إذا انتقل مركز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من غزّة إلى الضفّة الغربية والقدس، في صورة انتفاضةٍ فلسطينيةٍ شاملةٍ، وتعزز التوجه الفلسطيني بتنويع الحلفاء الإقليميين والدوليين، وعدم التعويل على الدور الأميركي مطلقًا.

المساهمون