عودة الصراع لشمال مالي: الانقلابات و"فاغنر" وفشل اتفاق السلام

عودة الصراع لشمال مالي: الانقلابات و"فاغنر" وفشل اتفاق السلام

05 أكتوبر 2023
جندي مالي ومقاتل من الطوارق، غاو، 2017 (سليمان آغ أنارا/فرانس برس)
+ الخط -

لا تزال مالي تبحث عن حلّ لأزمتها المتشعبة، والتي تتخبط فيها منذ ما يزيد عن عقد، حين استولت جماعات مسلّحة من الطوارق على إقليم أزواد شمالي البلاد، وأعلنت استقلاله، وما تلا ذلك من حروب وصراعات بين الجيش المالي والانفصاليين الطوارق من جهة، ثم بين القوات الفرنسية التي دخلت البلاد بطلب من باماكو والجيش المالي، وبين الجماعات المتطرفة التي استغلت أزمة الانفصاليين، من جهة أخرى، خصوصاً مع توسيع هذه الجماعات انتشارها في منطقة الساحل.

وتدخل مالي، اليوم، كما يبدو، فصلاً جديداً من الصراع، مع إعلان "تنسيقية الحركات الأزوادية" التي تضمّ المتمردين الانفصاليين في شمال مالي، في سبتمبر/ أيلول الماضي، الحرب على باماكو، و"التعبئة" العامة في صفوفها، والطلب من المدنيين المشاركة في "المجهود الحربي".

وجاء إعلان الحرب بعد سلسلة متلاحقة من التطورات، إثر انقلابين عسكريين في مالي منذ 2020، أطاحا أولاً بالرئيس (الراحل) إبراهيم أبوبكر كيتا، وصولاً إلى انسحاب القوات الفرنسية من مالي (مهمة "برخان") ثم طلب المجلس العسكري الحاكم في باماكو، بقيادة الرئيسي الانتقالي الجنرال أسيمي غويتا، من القوات الأممية في مالي (مينوسما)، وقوامها بحدود 15 ألف جندي، مغادرة البلاد، وهو ما بدأته هذه القوات، على أن يُنجز بالكامل بحلول ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

اتفاق السلام مترنح منذ سنوات، إلا أن الحركة الانفصالية اعتبرت الانسحاب الأممي آخر عناوين سقوطه

وتخلّل ذلك إصدار السلطات الانقلابية العسكرية في مالي دستوراً جديداً، اعتبر الانفصاليون الطوارق أنه يوجه ضربة قوية إلى اتفاق السلام الموقع مع باماكو في 2015 (برعاية جزائرية)، فيما يعتبرون أن القواعد العسكرية التي تخليها القوات الأممية في شمال البلاد، يجب أن تعود إليهم بموجب الاتفاق.

سيرة سياسية
التحديثات الحية

وإذ كان هذا الاتفاق مترنحاً منذ سنوات، إلا أن الحركة الانفصالية اعتبرت أيضاً الانسحاب الأممي آخر عناوين سقوط الاتفاق، فيما ترفض استبدال الوجود الأممي بالقوات المالية أو قوات مرتزقة "فاغنر" الروسية الداعمة لها. أما عسكرياً، وبعد تمكن المقاتلين الطوارق من السيطرة على 4 قواعد عسكرية في شمال البلاد، بعد الانسحاب الأممي، يبدو أن الجيش المالي الذي تعهد باستعادة كل البلاد، يتحضر لشنّ هجوم في منطقة كيدال، معقل الطوارق، ما ينذر رسمياً بعودة الحرب في نطاقها الواسع.

مالي منذ الاستقلال: غياب الاستقرار

ومنذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960، واجهت مالي، الواقعة في منطقة الساحل بغرب أفريقيا، الكثير من الظروف التي حالت دون استقرارها سياسياً واقتصادياً. وشمل عدم الاستقرار فترة الحكم الديكتاتوري بدءاً من الرئيس موديبو كيتا (1960 – 1968) إلى موسى تراوري (1969 – 1991)، مروراً بمرحلة تأسيس الديمقراطية التي لم تطل كثيراً ثم الانقلابات العسكرية التي استمرت في الفترة الأولى إلى عام 2012، تلتها ثورة الطوارق المطالبين باستقلال الشمال، ثم دخول الجماعات المتطرفة (خصوصاً الموالية لتنظيم القاعدة) والتي استغلت الأوضاع في مالي وجمعت شتاتها بعد فشلها في دول المغرب العربي. وانتهى كل ذلك بفترة جديدة طبعها الانقلابان العسكريان الأخيران وطرد القوات الفرنسية والاستعانة بخدمات "فاغنر"، وهي مرحلة لا تزال مستمرة.

في كل هذه المراحل، كانت المشكلات الاقتصادية تزداد حدة وتعقيداً أيضاً في مالي، وتؤثر سلباً على استقرار المجتمع المالي، ما ساهم في ارتفاع أعداد النازحين في مخيمات اللجوء بموريتانيا وبوركينا فاسو المجاورتين. كما أدى انتشار الفساد وسوء التسيير وتوالي سنوات الجفاف إلى مجاعات متكررة، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة وتغلغل الجماعات المسلحة في التجمعات السكّانية بشمال ووسط البلاد، فأصبحت مالي بذلك معبراً رئيسياً لجميع أنواع الإتجار غير المشروع بالسلاح والمخدرات والمهاجرين.

مهدئات وفشل... فحرب

مع انتداب بعثة أممية في شمال مالي (تأسست عام 2013) ونجاح القوات الفرنسية في دحر الجماعات المسلحة المتطرفة التي وجدت في مالي أرضية مناسبة لبسط سيطرتها بعد فرارها من المغرب العربي، بدأت أطراف الصراع تهدأ قليلاً، ونجحت الوساطات في توقيع اتفاق سلام بين الحكومة المالية والحركات الأزوادية المطالبة باستقلال الشمال في عام 2015 (اتفاق الجزائر).

غير أن فشل نظام الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا في التخفيف من أزمات الفقر والبطالة والهجرة وتحقيق الاستقرار والانسجام بين مكونات الشعب المالي، وخصوصاً الطوارق الذين يستوطنون الشمال ويشعرون بإهمال السلطات المزمن لهم، إضافة إلى نجاح المتطرفين في تنظيم صفوفهم، أعاد الأوضاع في مالي إلى نقطة الصفر.

كانت المشكلات الاقتصادية تزيد الأزمة حدّة في مالي، وتؤثر سلباً على استقرار المجتمع

وفي هذا الصدد، يرى الباحث في شؤون الساحل، محمد الطالب، أن الجيش المالي لم يعد باستطاعته دخول مناطق شمال وشرق البلاد بسبب الخلافات المتراكمة مع الحركات الأزوادية التي تولت تدبير أمور تلك المناطق منذ سنوات. ويضيف الطالب: "كان هناك تقدم في خطة استعادة سيطرة الحكومة المركزية على تلك المناطق قبل 3 سنوات، وتمكن الجيش من دخول مناطق للمرة الأولى منذ 2013، لكن ومع تراكم الأزمات وسقوط مدنيين جراء عمليات الجيش، وخصوصاً مع دخول قوات فاغنر وما تُتهم به من انتهاكات، انتكس الوضع وعاد الخلاف إلى أوجه مجدداً بين الحركات الأزوداية والجيش".

ويؤكد الباحث، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه حالياً هناك حرب بين الطرفين، واللذين يحاول كل منهما السيطرة على مناطق في شمال مالي، خصوصاً القواعد العسكرية التي كانت تشغلها البعثة الأممية التي تعتبر أكبر بعثة أممية". ويرى أن "هذه المناطق الاستراتيجية والقواعد العسكرية هي سبب الصراع الحالي والذي قد يتطور إلى حرب حقيقية يدفع المدنيون في الشمال ثمنها".

وفي هذا السياق، يحذر الطالب من زيادة نفوذ تنظيم "القاعدة" والتنظيمات الإقليمية المتفرعة عنها، في المنطقة، واستغلال الوضع بالتغلغل أكثر في التجمعات القروية وإيجاد حاضنة شعبية في مناطق بالوسط تمكنها من السيطرة وتوسيع عملياتها والتغلغل أكثر في الدول المجاورة.

وكانت "تنسيقية حركات أزواد" قد أعلنت، الأحد الماضي، سيطرتها على قاعدة عسكرية جديدة بعد قتال مع الجيش شمال البلاد. وقالت إن القاعدة التي استولت عليها هي قاعدة "بامبا" العسكرية في منطقة غاو، وهي رابع قاعدة عسكرية يتم الاستيلاء عليها في سلسلة هجمات شنّها تحالف الحركات منذ أغسطس/ آب الماضي بعد بدء القوات الأممية المغادرة. ولا يزال يتعين على بعثة "مينوسما" مغادرة قواعدها في كيدال، بالإضافة إلى أغيلهوك وتيساليت في الشمال، بحلول 15 ديسمبر المقبل.

وتعد البعثة الأممية في مالي من أكبر البعثات الأممية وتقول البعثة على موقعها إن عديدها بين قوات وموظفين كان يبلغ حتى يوليو/ تموز الماضي 15 ألفاً و209 أفراد يلبسون الزي الأممي، ومن بينهم أكثر من 13 ألفاً من الجنود، و1920 عنصراً من الشرطة الأممية. كما أن البعثة هي أكثر مهام الأمم المتحدة خطورة حتى الآن، حيث قتل 180 جندياً أممياً في مالي منذ بدء العملية عام 2013، إلى جانب إصابة العديد من الجنود بجروح خطيرة. وانتهت مهام البعثة رسمياً في يونيو/ حزيران الماضي، بقرار اتخذه مجلس الأمن بعد طلب السلطات العسكرية المؤقتة في مالي سحبها لوجود "أزمة ثقة" ولأنها "أصبحت جزءاً من المشكلة بتأجيج التوتر بين طوائف الشعب ما تسبب في انعدام الثقة بين سكان مالي".

تطورات في صالح الجماعات المتطرفة

ويخشى مراقبون للوضع في مالي من أن يعود الصراع إلى أشده في إقليم أزواد الذي يسكنه العرب والطوارق شمال مالي، خصوصاً مع دخول قوات "فاغنر" وسعيها الحثيث لإحراز تقدم ودفع الجيش المالي للسيطرة على جميع المناطق الاستراتيجية والقواعد العسكرية التي أخلتها البعثة الأممية من دون التنسيق والاتفاق مع الحركات المسلحة في أزواد.

ويقول الخبير العسكري المالي مختاري عبدوه أن اندلاع الصراع على المناطق المتنازع عليها في إقليم أزواد مؤشر خطير يهدد ما تم تحقيقه على مدى سنوات، ويؤكد أن تصاعد الاشتباكات وسعي الطرفين للسيطرة على المناطق المهمة في وسط وشمال البلاد بعد انسحاب القوات الأممية، سيكدر صفو ما تبقى من الهدوء الهش.

ويضيف عبدوه في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "الحركات الأزوادية هاجمت معسكرات للجيش المالي في مناطق بالشمال وقتلت جنوداً وأسرت آخرين واستولت على عتاد عسكري مهم"، لافتاً إلى أن "هذه الهجمات تزامنت مع أخرى تبناها تنظيم "القاعدة" في الساحل، ضد الجيش المالي الذي منعه التنظيم من دخول قرى تمبوكتو".

محمد الطالب: المناطق الاستراتيجية والقواعد العسكرية هي سبب الصراع الحالي

ويشير الخبير إلى أن هذه الأحداث جزء من تحركات واسعة لكل أطراف النزاع في الساحل، في مالي وبوركينا والنيجر، تقوم بها الجماعات المسلحة دون استثناء سواء المسلحة المتطرفة أو الإجرامية، وبالتالي فمن الضروري التعاون للحد من قدرات تلك الجماعات خصوصاً المرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" ولحماية السكان المدنيين من التأثر بهم واستغلال أوضاعهم لاتخاذهم حاضنة شعبية لتلك الجماعات.

ويرى عبدوه أن العمل العسكري والأمني ضروري لكنه غير كافٍ لوحده، بل من الضروري التعبئة والوعي بخطورة الإرهاب في منطقة الساحل الممتدة من تشاد إلى السنغال.

وتتمتع ولاية كيدال في منطقة أزواد بالحكم الذاتي، ويتولى تسييرها المتمردون السابقون لـ"تنسيقية حركات أزواد"، كما تسيطر هذه الحركات على أجزاء كبيرة من الإقليم الذي خرج عن سيطرة الدولة المالية منذ سنوات.

يذكر أنه في عام 2015 عادت هجمات المسلحين لترتفع وتداخلت مع النزاعات بين الجماعات المحلية، وامتدت إلى وسط مالي وجنوبها وحتى إلى دول الجوار. وحتى الآن، لا تزال مناطق شمال مالي تحت سيطرة جماعات مسلحة على صلة بتنظيم "القاعدة"، نتيجة تأخر تطبيق اتفاق السلام الموقع عام 2015 .

وتبلغ مساحة إقليم أزواد 822 ألف كيلومتر مربع وهو ما يمثل 66 في المائة من مساحة مالي البالغة مليون وربع مليون كيلومتر مربع، فيما يشكل سكانه 10 في المائة من مجموع المواطنين، وأغلبهم من عرقيات الطوارق والعرب والفلان والسونغاي. ويشمل إقليم أزواد ولايات تمبكتو وغاو وكيدال وعاصمته هي مدينة غاو، كبرى المدن في المنطقة.