الانقسام في المجتمع الإسرائيلي: تهديد للأمن القومي

الانقسام في المجتمع الإسرائيلي: تهديد للأمن القومي

20 يوليو 2023
من الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية (جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -

بعد عودة الاحتجاجات إلى الشارع الإسرائيلي بقوة في الأسبوع الماضي، وإصرار التحالف الحاكم على المضي قدماً بسنّ قانون "حجة المعقولية"، تتزايد في الأسبوع الأخير الدعوات لرفض التطوع في قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، خصوصاً من قبل طيارين في سلاح الجو، ووحدات القوات الخاصة ووحدات السايبر، بلغت وفق بعض الادعاءات حد إلحاق ضرر بجهوزية سلاح الجو ووحدات عسكرية هامة أخرى.

وكان لتهديد قوات الاحتياط، خصوصاً في سلاح الجو، دور مركزي في إرغام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تجميد الخطوات التشريعية في شهر مارس/ آذار الماضي، بعدما أقال وزير الأمن يوآف غالات، الذي عبّر عن معارضته العلنية لخطة التعديلات القضائية بعد توسع ظاهرة رفض التطوع، وتحذير قائد الأركان العامة هرتسي هليفي وقائد سلاح الجو تومير بار من خطورة ظاهرة رفض التطوع على جهوزية قوات الجيش.

يبدو أن نتنياهو مصرّ على محاربة ظاهرة رفض التطوع في الجيش

إلا أن الحالة مختلفة في هذه الجولة، ويبدو أن نتنياهو مصرّ على محاربة ظاهرة رفض التطوع والتقليل من شأنها. يدعي البعض أن نتنياهو ووزير الأمن لم يستبطنا بعد عمق الشرخ وخطورة الموقف على قوات الجيش وتماسكها. وصرح نتنياهو في بداية الجلسة الأسبوعية الأخيرة لحكومته، الإثنين الماضي، بأن هذه الظاهرة هي ما يهدد الديمقراطية، وأنه ممنوع أن ترضخ الحكومة إلى أي تهديد يرمي إلى ثنيها عن اتخاذ قرارات وتنفيذ سياسات.

ظاهرة رفض التطوع في قوات الاحتياط، وتهديد تماسك وحدات الجيش، ليست العامل الوحيد الذي يشكّل تهديداً على الأمن القومي الإسرائيلي. فقد أصدر مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب (INSS)، "تحذيراً استراتيجياً" سوداوياً في الأيام الأخيرة، يوضح فيه أن الصراع السياسي والاحتجاجات باتا يشكلان خطراً استراتيجياً على الأمن القومي الإسرائيلي، في عدة محاور. ويعدد التقرير جوانب التهديد على الأمن القومي، أبرزها:

تراجع جدي في المناعة الاجتماعية والقومية

أثّرت الأزمة السياسية المتواصلة في السنوات الأخيرة سلباً على المناعة الاجتماعية، وانعكست في تراجع التضامن والتكافل في المجتمع الإسرائيلي، الموجود في حالة استقطاب عميقة، حتى قبل الخطة الحكومية لتقييد القضاء وبدء حركات الاحتجاج. يتجلّى ذلك في التراجع المستمر في ثقة الجمهور بمؤسسات الدولة، وبمستوى الحوكمة، وفرض سلطة الدولة وسلطة القانون، وكذلك في ابتعاد الدولة وقادتها عن الالتزام بالمصلحة العامة، والعمل على تحقيق مصالح حزبية أو شخصية ضيّقة.

خلقت أحداث الأشهر القليلة الماضية مخاطر جديدة جدية على مستوى المناعة الاجتماعية، وصلت إلى حد التهديد بالتفكك الاجتماعي. على الرغم من أن الصراع لم يؤدِ لغاية الآن إلى استعمال العنف، لكن من الواضح أنه لا يمكن إلغاء هذه الإمكانية وأن يتدهور الصراع إلى استعمال العنف الشديد، بما في ذلك استعمال السلاح. قد يؤدي مثل هذا التطور إلى كارثة وطنية سيكون التعافي منها، إذا حصل أصلاً، صعباً وطويل الأمد.

التهديدات الأمنية

بغضّ النظر عن خطة "الإصلاح القضائي"، فقد اشتدت التهديدات الأمنية أخيراً: أولاً، كان هناك ارتفاع في مستوى تهديدات إيران، التي أصبحت في واقع الأمر دولة عتبة نووية، وهي تكتسب خبرة عسكرية كبيرة في الحرب في أوكرانيا، وحتى من المقرر أن تتلقى أنظمة أسلحة متطورة من روسيا. في الوقت نفسه تعمل إيران على تعميق نفوذها الإقليمي، وعلى توطيد علاقاتها مع جيرانها في الخليج، برعاية الصين. ثانياً، تشهد الجبهة الفلسطينية منذ فترة طويلة تصعيداً مقلقاً للاحتلال، وتستمر موجة الهجمات في ظل إضعاف السلطة الفلسطينية وتنامي الجماعات المسلحة من نوع "عرين الأسود".

تشهد الجبهة الفلسطينية منذ فترة طويلة تصعيداً مقلقاً للاحتلال

ثالثاً، يُظهر "حزب الله" سلوكاً أكثر عدوانية، وهو ما يشير إلى احتمال تآكل الردع تجاهه. تآكل المناعة الداخلية وقدرات الجيش نتيجة الاحتجاجات السياسية يزيد من هذه المخاطر.

الضرر للعلاقات مع الولايات المتحدة

هناك تآكل في العلاقات الخاصة والمميزة مع الولايات المتحدة، المبنية، من ضمن أمور أخرى، على القيم المشتركة وليس فقط على المصالح المشتركة، بسبب الخطة الحكومية لتقييد القضاء وبسبب الخطوات الحكومية تجاه القضية الفلسطينية. هذا بالإضافة إلى التحوّلات المقلقة داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك التغيرات الديمغرافية والمواقف تجاه إسرائيل، وابتعاد الجاليات اليهودية هناك عن إسرائيل.

تراجع الحالة الاقتصادية

استمرار الحكومة في السير قدماً بالخطة القضائية يوجّه ضربة إضافية للاقتصاد ويثير مخاوف جدية بين أوساط اقتصادية واسعة في إسرائيل وخارجها، الذين يحذرون من العواقب الوخيمة التي قد يجلبها ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي. إذا استمرت عملية التشريع، فمن المرجح أن ينخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل، وسيكون من الصعب للغاية ترميم الضرر الذي لحق بصورة إسرائيل كدولة ناجحة اقتصادياً، والتي بُنيت على مدى عقود من السياسة الاقتصادية المسؤولة، واستقرار النظام ونظام قانوني مستقل وموثوق.

استمرار الحكومة في السير قدماً في الخطة القضائية يوجّه ضربة إضافية للاقتصاد

بالإضافة إلى ورقة "التحذير الاستراتيجي"، نشر مركز أبحاث الأمن القومي خلاصة حلقة نقاش خاصة، جمعت خبراء من عدة مجالات حول تأثير التصدع السياسي - الاجتماعي على الأمن القومي الإسرائيلي. وخلص النقاش إلى أن الأزمة الاجتماعية السياسية لها عواقب متعددة الأبعاد، على المدى القصير والبعيد، على الأمن القومي. ويرى الخبراء أنه في الوضع الراهن يبرز الغضب والشعور بالخطر لدى شرائح رائدة في المجتمع والاقتصاد، التي تعيد حساباتها ومدى استعدادها لتحمل العبء، والمساهمة بقدراتها ومواردها للدولة. أيضاً هناك خشية من أن تغادر شرائح اجتماعية قوية ومتمكنة البلاد وتهاجر إلى الخارج. في المقابل، هناك من يرى بهذه التحولات تفتيتاً لحالة التضامن التي كانت قائمة في المجتمع الإسرائيلي، وإعادة البحث بمركّبات أساسية وحّدت الأمة اليهودية.

كذلك تغلغل الجدل السياسي في منظومة المؤسسات الرسمية ويؤثر على عملها وأدائها. منها وزارات حكومية، والجيش، وأجهزة الأمن الأخرى. منظومة الاحتياط في الجيش تمر بأزمة جدية لها إسقاطات صعبة على المدى البعيد. كما تمر الشرطة في أزمة مستمرة، تخلق ضعفاً في أدائها. وهناك عملية تسييس مستمرة في أجهزة الدولة الحيوية تؤثر على عملية صناعة القرار في مواضيع وقضايا حساسة. الاعتبارات الرسمية والدولتية تتراجع أمام اعتبارات سياسية ضيقة وأمام ضغوطات سياسية.

الأزمة الداخلية وطريقة إدارتها هي حدث مدمّر وغير مسبوق في إسرائيل

تخلص تقارير مركز أبحاث الأمن القومي إلى أن الأزمة الداخلية وطريقة إدارتها هي حدث مدمّر وغير مسبوق في إسرائيل. ومن الصعب التكهن كيف وفي أي اتجاهات يمكن أن تتطور الأمور. فرضية العمل أنه نشأ "توازن رعب" غير مستقر في الأشهر الأخيرة بين الحكومة وحركات الاحتجاج، ولا يمكن التكهن بما إذا كانا مهتمين ومعنيين بالتوصل إلى حلول وسط لجسر الهوة بينهما.

الصراع على الخطة الحكومية لتقييد القضاء هو صورة مصغرة عن الصراع الجوهري الأوسع والأعمق حول طبيعة وهوية الدولة. وحتى لو توصل الطرفان إلى نوع من التسوية في المجالات القانونية، فهناك شكوك في أن هذا سينهي الأزمة العميقة بين المشروعين. هناك قوى قوية في كلا المعسكرين ستعارض هذا الاتفاق بشتى الوسائل.

على أي حال، لن تؤدي تفاهمات محدودة إلى تقليص الخلافات الجوهرية القائمة في المجتمع الإسرائيلي، والتي ترتكز على مشاعر الريبة والعداء وعلى تصورات مختلفة حول هوية إسرائيل وطابعها وطريقة تصرفها داخلياً وخارجياً. ومن غير المتوقع أن يتخلى المعسكر النخبوي الجديد بمكوناته المختلفة عن قوته السياسية المتزايدة. من غير المرجح أن يوافق معسكر الاحتجاج - الذي يعتمد بشكل أساسي على النخب القديمة التي لا تزال المجموعات الأقوى اقتصادياً واجتماعياً في المجتمع الإسرائيلي - على عملية تقليص مركّب الديمقراطية الليبرالية في إسرائيل لصالح تقوية مركّب القومية اليهودية. الفجوة بين المعسكرات مرشحة للتوسع.

في ظل غياب الآليات المقبولة للحوار والاتفاق، وفي جو من الخطاب المسموم، لا يرى خبراء مركز أبحاث الأمن القومي كيف يمكن منع أو تخفيف الأزمة العميقة، أو هل بالإمكان العودة إلى الحياة الطبيعية التي سادت قبل تفشي وتوسع الأزمات والتصدع السياسي والاحتجاج. وطبعاً لا ينبغي استبعاد احتمال تدهور التصدع بين المعسكرات إلى درجة العنف.

في هذا الوضع المعقّد، يستنتج المشاركون أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار الأزمة الاجتماعية والسياسية، ولو بدرجات متفاوتة، على الرغم من أن الاستمرار في هذا المسار، الذي يفتت المجتمع، هو كابوس وتدمير تدريجي لقوة دولة إسرائيل. فقط استيعاب القيادات والجمهور لمدى خطورة الحالة على استمرارية دولة إسرائيل كـ"دولة ديمقراطية" يمكن أن يؤدي إلى وقف هذا الجنون.

في المجمل يمكن القول، وفقاً لتقارير وتقييم مركز أبحاث الأمن القومي، إنه لم يعد بالإمكان التعامل مع الأزمة السياسية في إسرائيل كنوع من أنواع التصدع السياسي التقليدي الذي بالإمكان احتواؤه بالأدوات السياسية العادية، أو بواسطة محادثات بين التحالف والمعارضة. بات الصراع يشكل تهديداً على الأمن القومي في إسرائيل بمعناه الواسع، ويهدد بتفتيت المجتمع، وتراجع مناعة وتماسك المجتمع والدولة، وعلى الحالة الاقتصادية، والعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ودول المنطقة، ويضر بتماسك وفعالية قوات الجيش الإسرائيلي.