الانضباط الحزبي في بريطانيا: "سيّاط" لضبط مسار النواب

الانضباط الحزبي في بريطانيا: "سيّاط" لضبط مسار النواب

02 مايو 2022
يتهم سيّاط بمحاولة حماية جونسون (رويترز)
+ الخط -

يصعب العثور على مرادف دقيق لمنصبي "السيّاط" (Whips) ورئيس "السوط" في اللغة العربية. وليس المرادف بهذا المعنى لغوياً فحسب، بل أيضاً تقنياً. فهذا المنصب والأدوار الممهورة به في الحياة السياسية البريطانية، لا يعادله في الثقافة العربية أو حتى الغربية منصب بعينه، بل يجمع مناصب عدّة في الوقت ذاته.

وتلك المناصب لا تندرج في سلّم الوظائف الرسمية والمتعارف عليها فقط (أمين السر، مدير الشؤون الإدارية)، بل أيضاً المناصب والأدوار السرّية والمجازية أو حتى التعسفية (مدير الاستخبارات السرّية، كاتب تقارير أمنية، واشٍ، رقيب).

ومع اقتراب الانتخابات المحلية في بريطانيا، المقررة في 5 مايو/أيار الحالي، بدأت الأخبار تخرج إلى العلن عن دور "السيّاط" ورئيس "السوط" في التأثير على النواب لحماية رئيس الوزراء بوريس جونسون.

ويُتهم "سيّاط" حزب المحافظين حالياً، بمحاولتهم ترهيب وابتزاز أعضاء البرلمان المتمردين لحماية جونسون. وسبق للنائب المحافظ ويليام وراج أن أكد تعرّض النواب إلى التهديد بقطع التمويل عن دوائرهم الانتخابية إذا ما اشتبه في تآمرهم على رئيس الوزراء.

مع اقتراب الانتخابات، بدأت الأخبار تخرج عن دور السيّاط في التأثير على النواب

"داونينغ ستريت" (مقر رئاسة الوزراء) نفى تلك المزاعم، وأعرب عن نيته "النظر في الأمر بعناية شديدة" لو ثبتت صحة تلك الادعاءات. وبالنظر إلى السرّية التي يعمل بها "السيّاط" برفقة رئيسهم، وبالنظر إلى أن عمليات "الجلد" مجازية ولا تترك آثاراً على أجساد النواب، يصبح إثبات مثل تلك الادعاءات أمراً شبه مستحيل.

فمن هم هؤلاء العاملون في الخفاء، أصحاب "السّوط" الذين يتقنون فنّ "الجلد"؟

مسؤوليات "السيّاط" في بريطانيا

السيّاط هم نواب أو أعضاء في مجلس اللوردات، مهمتهم الأساسية المساعدة في تنظيم مشاركة الحزب في الأعمال البرلمانية. هم أيضاً بئر أسرار البرلمان والأوصياء على السمعة العامة لكل حزب وبالتالي السمعة الخاصة لكل نائب. لا يُنتخب السيّاط، بل يعيّنون من قبل رؤساء الأحزاب، ثم يقومون بتعيين نواب عنهم.

يعود استخدام البرلمان البريطاني لهذا المصطلح إلى القرن الثامن عشر، ويشار به إلى مجموعة صغيرة من النواب، تتمثل مسؤولياتهم في إبقاء زملائهم على "السراط المستقيم"، لا يحيدون عن "القطيع".

تتمثل إحدى مسؤوليات السيّاط في التأكد من أن أقصى عدد ممكن من أعضاء الحزب يصوّت، لا بل ويصوّت بالطريقة التي يريدها الحزب. هم أيضاً قناة الوصل بين القيادة والنواب، وجزء من وظيفتهم يحتّم عليهم أن يتسلّلوا إلى رؤوس النواب ليكتشفوا نواياهم مسبقاً وما يُخفون في نفوسهم وما يُبطنون وما إذا كان بعضهم سيصوّت بطريقة "خاطئة" بما يشكّل تحدّياً لأجندة قائد الحزب. وبالتالي هم مطالبون بحكم الحاجة بإقامة علاقات وطيدة وعميقة مع أعضاء البرلمان، ووصلهم بالوزير المختصّ في اللحظة المناسبة، تحسّباً من أن تتحول المخاوف والمطالب إلى تمردات داخلية.

على رئيس السوط أن يكون ودوداً، وأن يجيد الإصغاء وأن يتمتع بالصبر والهدوء والقدرة على ضبط النفس وعدم الانهيار. ولاؤه للحزب ولرئيسه يُعدّ عنصراً مهماً للغاية. كما أن رئيس السوط ونوابه السيّاط يقومون بدور الوصل بين الأحزاب، وليس فقط بين نواب الحزب وزعيمه، أو بين النواب وباقي الوزراء.

ترتيب أعمال البرلمان عبر "القنوات المعتادة"

يعمل السيّاط جنباً إلى جنب مع رئيس مجلس العموم، في ترتيب أعمال البرلمان. ويشار إليهم عند أدائهم هذا الدور بـ"القنوات المعتادة"، أي الطرق أو الأساليب التي يقرر عبرها سيّاط الأحزاب المختلفة كيفية ترتيب البيت الداخلي في ما بينهم. 

و"القنوات المعتادة" هي شبكة ضخمة من العلاقات والاتصالات، تتم فيها مناقشة الأحداث الجارية وقضايا معينة، كنيّة الحكومة تمرير تشريع ما. ينتهي المطاف بذلك التشاور الحاصل بين السيّاط من جميع الأطراف بصفقات يتم إبرامها في محاولة لإرضاء الجميع. ومن المهام الأساسية لـ"القنوات المعتادة" تلك، الحفاظ على الروابط بين الحكومة والمعارضة.

يرسل السيّاط إلى نوابهم نشرة أسبوعية تسمّى "السوط"، وفيها شرح تفصيلي للأعمال البرلمانية المقبلة، إضافة إلى التعميمات الحزبية، ويتم ترتيبها بحسب الأهمية. الإشارة إلى أهميتها تُختصر بعدد المرات التي تُسطّر فيها. "سوط" من سطر واحد يعني أن الحضور في التصويت مطلوب، ولكنه ليس إجبارياً، وهذا الخط الواحد لا يستدعي أي قلق. "سوط" من سطرين (وهو نادراً ما يُستخدم) يعني أن الحضور واجب، إلا أنه لم يصل بعد إلى مرحلة الثلاثة سطور وعادة ما يتم استخدامه في حالة إجراء التصويت الحر، أي أن النواب أحرار في كيفية تصويتهم لكن يرجى منهم الحضور.

الإشارة إلى أهمية التعميمات الحزبية تُختصر بعدد المرات التي تُسطّر فيها

أما "سوط" من ثلاثة سطور فهو "الرعب" بعينه. ولا يُعطى النائب في تلك الحالة خيار الحضور أو التغيّب. ويُعتبر عصيان "السوط" من ثلاثة أسطر "جريمة" لا تُحمد عقباها، تتفاوت عقوبتها بحسب نوع "السوط" الذي تمّ عصيانه والظروف السياسية أو تلك الشخصية. إلا أن ذلك العصيان قد يؤدي في حالات كثيرة إلى سحب السوط من النائب أو اللورد، ما يعني أن العضو مطرود فعلياً من حزبه لكنه يحتفظ بمقعده كنائب مستقلّ حتى يتم استعادة السوط، لو استطاع استعادته.

يُعدّ عصيان أو تحدّي "السوط" من ثلاثة أسطر، أمراً نادراً نسبياً. ومع ذلك، شهدت أروقة البرلمان البريطاني عصياناً لـ"السوط" من ثلاثة أسطر أمام قرارات مفصلية، كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي هزّ "عرش" الانضباط الحزبي.

ففي عام 2017، خالف 47 نائباً من حزب العمال "سوطاً" من ثلاثة أسطر يطالب نواب الحزب بدعم تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، التي تمثل السبيل الوحيد لأي دولة تنوي الخروج من الاتحاد الأوروبي (بند الانسحاب). وضمنت هذه المادة في معاهدة لشبونة التي وقعت عليها كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والتي اكتسبت صفة القانون في عام 2009. ولم تكن هناك قبل تلك المعاهدة أي آلية لخروج أي دولة من عضوية الاتحاد الأوروبي.  

كما صوّت 118 نائباً محافظاً ضد صفقة الحكومة بشأن "بريكست" في يناير/كانون الثاني 2019، وقد سُحب "السوط" منهم، وكان من بينهم حفيد ونستون تشرشل، السير نيكولاس سوامز، وكين كلارك، النائب عن حزب المحافظين لما يقارب الخمسين عاماً. بينما صوّت 97 نائباً محافظاً ضد إدخال تصاريح كوفيد-19 الإجبارية للنوادي الليلية والأماكن المكتظّة في ديسمبر/كانون الأول 2021.

الحفاظ على الانضباط الحزبي

الانضباط الحزبي هو أحد المسؤوليات الأساسية المرمية على عاتق رئيس السوط. ونظراً لسرية هذا المنصب، يصعب تقدير الأساليب التي يتبعها كل رئيس "سوط" لضبط إيقاع النواب.

إلا أن بعض التكهنات تؤكد أن السيّاط يملكون في جعبتهم كل التفاصيل الدقيقة عن حياة النائب، تلك التفاصيل التي من شأنها أن تعلقم حياته إن ضلّ طريقه. يجمعون أكبر قدر من المعلومات عنه وعن حياته الشخصية وعما ارتكبه من زلّات في حياته السياسية أو الخاصة. يستخدمون تلك المعلومات في تفادي أي "فضيحة" من شأنها أن تزلزل كيان الحزب وسمعته، أو يستخدمونها فيما يشبه الابتزاز لو احتاج الأمر.

يصعب تقدير الأساليب التي يتبعها كل رئيس "سوط" لضبط إيقاع النواب

وأثيرت في الصحافة البريطانية عبر السنوات، الكثير من النقاشات حول المراحل التي مرّ بها عمل "السيّاط" ورئيسهم. ففي الماضي، كان اهتمام "السيّاط" بحياة النواب الخاصة وأسرارهم وخطاياهم يرنو إلى حفظ تلك الأسرار وإخفائها عن المجال العام حرصاً على سمعة "القطيع". إلا أنها اليوم تشكّل أكثر فأكثر "سوطاً" حقيقياً للضغط على النائب المتورط بالخيانة الزوجية مثلاً أو بالاختلاس، لكبحه والسيطرة عليه وتهديده بتسريب تلك المعلومات "القاتلة" إلى الصحافة والفضاء العام.

أما مصطلح التصويت الحر، فيعني أن النواب أحرار في التصويت كما يحلو لهم من دون أن "يُجلدوا". ويُعدّ التصويت الحرّ نادر الحدوث نظراً إلى أن أعضاء الحكومة ملزمون عادة بدعم موقف الحكومة بموجب اتفاقية المسؤولية الجماعية لمجلس الوزراء.

إلا أنه يُسمح لهم في مناسبات قليلة بالتعبير عن آرائهم المستقلة في مجلس العموم، لا سيما إن تعلق الأمر بمسائل إنسانية وعاطفية، كصيد الثعالب أو الموت الرحيم، إضافة إلى مسائل أخرى شائكة، يساعد فيها "التصويت الحر" على ابتلاع دخان أزمة ما قبل أن تشتعل.

المساهمون