إبادة غزة: نحن وهم!

إبادة غزة: نحن وهم!

25 فبراير 2024
بنيامين نتنياهو أثناء زيارة لمركز طائرات الاحتلال من دون طيار (جاك جويز/فرانس برس)
+ الخط -

إنّها حرب الحضارة على البربريّة والهمجيّة، هكذا وصف بنيامين نتنياهو حرب الإبادة ضدّ غزّة (بعد عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس)، في مؤتمره الصحفيٍ مع نظيره الروماني مارسيل سيولاكو، الذي كان أول رئيس وزراء أجنبي يزور "إسرائيل"، في 17/10/2023، حينها قال نتنياهو إنّ "الحرب التي تخوضها حكومته على قطاع غزّة هي حرب جميع الدول المتحضرة"، ثم أضاف: "نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدول المتحضرة وجميع الشعوب المتحضرة".

كذلك في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وصف نتنياهو الحرب الذي يشنّها على غزّة بدعم غربيّ، عندما التقى الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، بأنّها "معركة الحضارة ضدّ البربرية". ثم قال نتنياهو خلال مؤتمرٍ صحفيٍ مع وسائل الإعلام الأجنبية، في 30 أكتوبر 2023: "هذا وقت الحرب. حرب من أجل مستقبل مشترك. اليوم نرسم خطا فاصلا بين قوى الحضارة وقوى البربرية. لقد حان الوقت ليقرر الجميع أين يقفون".

كشفت عملية "طوفان الأقصى" عن حدثٍ تاريخيٍ شقٍ ونافرٍ في شرخٍ قديمٍ تم العمل على إعادة إحيائه، يفصل بين "نحن المتحضرين" وهُم "البرابرة"، وهذا الشرخ يواكبنا منذ العهد التوراتي "المُتخيل" بشكله المقدس، إذ يحارب "شعب الله المختار" الشعوب المتخبّطة في غياهب الجهل.

تقاسمت خطابات نتنياهو عن الحضارة والبربرية مع هنتنغتون رؤيته للعالم، القائمة على العلاقة العدائية بين نحن وهم

شعب الله المختار!

إن مصطلح "الشعب المختار"، ترجمةٌ للعبارة العبرية "هَعَم هَنبحار"، وهناك معنى آخر للاختيار، في عبارة مثل: "أتا بحَرتانو"، والتي تعني اخترتنا أنت، و"عم سجولاه"، أي الشعب الخلاصة، أو »عم نحلاه« أي شعب الإرث، ويؤمن الكثير من اليهود بأنّهم "شعب الله المختار"، إن هذه المقولة لبنةٌ أساسيةٌ في الفكر الديني اليهودي، وتعبيرٌ آخر عن النسج الحلولي الذي تَشَكل داخل التركيب التراكمي للديانة اليهودية، والثالوث الحلولي مكوّنّ من: »الإله والأرض والشعب«، فيحل الإله في الأرض، لتصبح أرضًا مقدسةً ومركزًا للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعبًا مختارًا، وأزليًا، ولهذا السبب، يشار إلى الشعب اليهودي بأنه "الشعب المقدس"، و"عَم عولام" أي شعب الكون، "عَم نيتسح"، أي الشعب الأبدي.

جاء في سفر التثنية (7: 6): "لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ". وتتواتر الفكرة نفسها في سفر اللاويين (20: 24- 26): "وَقُلْتُ لَكُمْ: تَرِثُونَ أَنْتُمْ أَرْضَهُمْ، وَأَنَا أُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا لِتَرِثُوهَا، أَرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمُ الَّذِي مَيَّزَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ. فَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ، وَبَيْنَ الطُّيُورِ النَّجِسَةِ وَالطَّاهِرَةِ. فَلاَ تُدَنِّسُوا نُفُوسَكُمْ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ، وَلاَ بِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ مِمَّا مَيَّزْتُهُ لَكُمْ لِيَكُونَ نَجِسًا. وَتَكُونُونَ لِي قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ، وَقَدْ مَيَّزْتُكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ لِتَكُونُوا لِي".

كما ترددت أصداء هذه الفكرة في التلمود أيضًا كـ"أرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح، لأن الأرواح غير اليهودية هي أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات، الفرق بين الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهودي وباقي الشعوب".

هناك وفرةٌ في الأمثلة لمفهوم "الشعب المختار"، المستخدم للتفرقة بين نحن وهم، وفي معظم الأمثلة التفرقة بين "عبري/ إسرائيلي" ومختلف الشعوب الأصلية. إلى حد القول بأن نحن ربما نجعل هم عبيدًا لنا. بذلك، ترى الجماعة اليهودية نفسها نمطًا فريدًا، وربطت سرديّة الاستشراق الأوروبّيّ الكلاسيكيّ، بين الجماعات اليهودية القديمة المُتخيلة، والمستوطنين الصهاينة الحاليين، لتبرير دعواهم الاستعمارية في فلسطين.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

لقد رسخت هذه الأقوال ازدواجية في فهم التاريخ، فقد وضعت "الشعب المختار" في مواجهة الشعوب غير المختارة. وسمحت بتمييزٍ سطحيٍ وسهلٍ بين الصواب والخطأ، والأخيار والأشرار، والخير والشر.

نحن وهم!

تقاسمت خطابات نتنياهو عن الحضارة والبربرية مع هنتنغتون رؤيته للعالم، القائمة على العلاقة العدائية بين نحن وهم. هذه الرؤية طرحها المفكر الألماني فريدريش فيلهيلم نيتشه، في فلسفته التي أكدت على رفض المساواة بين الأعراق، قائلًا: "العرق السائد يجب أن يكون في القمة، وإلا فمصيره الدمار". ومن خلال ما تقدم نجد أن نيتشه قد طرح فكرة "النقاء العرقي" لإثبات تفوق وسيادة الشعب الآري على كلّ الشعوب، وصولًا إلى فكرة "السوبر أمة، أو "الأمة الأعلى".

لقد تعامل الاستعمار مع السكان الأصليين من مختلف الأعراق، الذين سكنوا أراضي الأميركيتين وآسيا وأفريقيا، بوصفهم عِرقًا أدنى من العِرق الأوروبي، يمكن ببساطةٍ تجاهلهم، أو استغلالهم سواء كانوا عمالةً أو حتّى تجنيدهم في الحروب الطويلة، أو بحد وصف هنري بوانكاريه، فيلسوف العلوم الفرنسي: "استُخدم السكان الأصليون باعتبارهم تلقيمًا لبندقية الفرنسي الأبيض".

في سـنـة 1978، نـشـر البروفيسور إدوارد سـعـيـد كـتـابـه "الاسـتـشـراق"، وهو، تحليلٌ للتمثيلات الغربية لـ"الشرق"، ودور هذه التمثيلات في كلٍّ من تبرير السيطرة الإمبراطورية الأوروبية، وتحديدًا طبيعة أوروبا ذاتها. رأى سعيد أن الاستشراق عمل كنظامٍ لإنتاج المعرفة، فأنتج سلسلةً من التراتبية بين الغرب والشرق؛ أتاحت للغرب تأكيد تفوقه وسيطرته على المجتمعات الشرقية. ذهب إدوارد سعيد إلى اعتبار الاستشراق ظاهرةً معرفًا إياها بأنّها "أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه".

اليوم نرسم خطا فاصلا بين قوى الحضارة وقوى البربرية. لقد حان الوقت ليقرر الجميع أين يقفون"

تحت مظلة الهيمنة الغربية على الشرق في الفترة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، نشأت صورةٌ مُرَكبةٌ للشرق، وأصبحت ملائمةً للدراسة في المعاهد العليا، وللعرض في المتاحف، ولإعادة الصوغ في وزارة المستعمرات، وللاستشهاد بها نظريًا في الأطروحات الخاصة بعلم الإنسان (الأنثربولوجيا) وعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم اللغة، ودراسات الأعراق والدراسات التاريخية عن الجنس البشري والكون، إلى جانب الاستشهاد بنماذج منها النظريات الاقتصادية والاجتماعية للتنمية والثورة والشخصية الثقافية، وسمات الفرد الوطنية والدينية.

يناقش إدوارد سـعـيـد في كـتـابـه "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها"، كيف تطورت هذه المفاهيم العِرقية الاستعمارية انطلاقًا من مبادئ علم اللغة ونظريات اللغويين الألمان مثل ماكس مولر وفريدريش شليجل في تصنيف اللغات، وهي المفاهيم التي انتقلت إلى العلوم الإثنية وتوسعت لإنتاج تصنيفات عِرقية يسود فيها العِرق الأبيض (من وجهة نظر العلم) على بقية الأعراق.

بحلول منتصف القرن التاسع عشر، ساهمت هذه الاعتقادات العلمية الزائفة في تعزيز الاعتقاد بأن على الأوروبيين أن يحكموا غير الأوروبيين، لتصبح الأراضي التي يسكنها أولئك الذين اعتُبروا من الأعراق الأدنى متاحة أمام المستعمر الأبيض.

وظفت هذه النصوص لـ "دعم الاستعمار في مناطق عديدة وفي فترات مختلفة حيث كانت الشعوب الأصلية لتلك المناطق أشبه بالحثيين وبالجرجاشيين وآخرين. ولولا طبيعتها الدينية لعُدَّت تحريضًا على الكراهية العنصرية. وانطلاقًا من معايير الأخلاق وحقوق الإنسان التي أضحت مجتمعاتنا متعودة عليها، تعدُّ الأسفار الستة الأولى من الكتاب العبري أنها تعكس، للوهلة الأولى، بعضًا من مشاعر التفوق والعنصرية والخوف من الغرباء، والتي تبدو أنها تلقى أكبر قدر ممكن من الشرعية في صيغة موافق عليها سماويًا، وعلى الصعيد الخلقي، يجد المرء نفسه مضطرًا إلى أن يتساءل عمّا إذا كانت التوراة لا تزال مصدر تقديم شرعية سماوية لاحتلال أراضي شعب آخر وإبادة فعلية للسكان الأصليين".

أكد العدوان الصهيوني مجددًا حقيقة الكيان الصهيوني الدموي، وعكس مدى العنف، والقسوة، والإرهاب باعتبارها جزءًا من البنية العقلية والفكرية، والاجتماعية، والنفسية له، وكون تلك الصفات نسيجًا دينيًا وثقافيًا جعلت من العنف والإرهاب عقيدة باسم الدين.

المساهمون