فلسطين ليست محظيتكم

فلسطين ليست محظيتكم

03 مايو 2018
+ الخط -
(1)
أما وقد فاض الكيل، وبلغت الوقاحة والجرأة على فلسطين وأهلها مبلغا لا حدود له، فقد آن للصامتين أن يفتحوا أفواههم على وسعها، للرد على الشامتين بمحنة فلسطين، وهم أول المشاركين في خذلانها، إن لم يكونوا أصلا أسّ بلائها، والسبب الأكبر في معاناتها. لم يعد الصمت من ذهب، وقد ذهب اللاهثون لإرضاء نتنياهو (وهو ليس راضيا) كل مذهب، فتجرأوا على إعلان ما كانت تُخفي صدورهم، وما تفعله أيديهم من مكر الليل والنهار، وغدوا يتقيأون في وجوه الناس كل يوم سفاهاتهم من اتهامات وإدانة للضحية، وتمجيد للقاتل و"حقه" في التنكيل بها، حتى سكر هذا القاتل نشوةً بما لم يكن يحلم به، من حَمَلة لواء الدين والشريعة والوطنية، وهم أول من يخونها.
لم يعد الصمت فضيلة، في حفلة "التعرّي" السياسي، ونحن نرى من يُفترض بهم الوقار والعفّة، يتلوون على مسارح الإعلام والإعلان، ومنصّات التواصل المجتمعي، يخلعون قطعةً قطعةً من ملابس الخديعة وأزياء العفّة، إمعانا في استدراج إعجاب النظارة من قبيلة الإجرام والقتل والاحتلال، بل لم يعد المسرح يتسع للمتسابقين على اعتلائه، من "رجال دين" (أو بالعربية الفصيحة المطعمة: إكليروس إسلامي (!) بكل ما تحمله الكلمة من ظلال تاريخية) ورجال إعلام وساسة كبار وصغار، واقتصاديين، وحتى من "فراخ" وأشباه الرجال، ممن أدمنوا مهنة "النعيق" لا التغريد، على "تويتر" و"فيسبوك"، حتى بتنا نشعر بأننا في صالةٍ تغصّ برجال الستربتيز، المتنافسين في نيل إعجاب النّظارة، فتراهم يمعنون في عرض عوراتهم البشعة، ويتفنّنون في هتك كل ما يتشدقون به من ادّعاء العفّة والطهارة والنظافة، فهم قد ولغوا في وحل الخيانة، والتباهي بها، والدوس على كرامتهم هم، قبل أن يمسّوا شعرةً من كرامة فلسطين وأهلها!
(2)
لنعترف بأننا لا نعيش حالة دهشة من الدرك الأسفل الذي وصل إليه هؤلاء، فتاريخهم السري يشهد فصولا من التواطؤ والخذلان لكل ما ومن هو شريف وجميل ووطني في حياة العرب،
 ولكن زمن الاختفاء وراء عباءة النفاق ولّى، وأسفرت الوجوه الكالحة عن كل قبحها. ولهذا لنعترف أيضا بأننا بتنا نتميز من الغيظ، والاحتراق الداخلي، كلما قذف سفيهٌ منهم بتصريح أو "نعقة" لا تغريدة، تنال من شرف فلسطين، وأهلها، وترميهم بما ليس فيهم، وتمتدح قتلتهم، وحقهم في التنكيل بحرائرها ورجالها. ولذا، لا بد من أن نُسمِع هؤلاء ما يستحقون سماعه، فلفلسطين أهل وأحباب بالملايين، وهي ليست يتيمةً أو واحدةً من محظياتهم، يعبثون بها متى يشاؤون. فلسطين لها من يدافع عنها منذ ما يزيد على قرن، ومنذ وطِئ أرضها أول الأنجاس القتلة، فقدّمت ولم تزل خيرة الخيرة من أبنائها، ذكورا وإناثا، دفاعا عن شرفها وشرف أمتها، فهي "غشاء بكارة" هذه الأمة، وباروميتر كرامتها وعزّتها. وكلما ذلّت ذلت الأمة. وكلما تحرّرت، تحرّرت الأمة.
فلسطين لم تكفّ عن الموت بل الحياة، دفاعا عن هؤلاء وأولئك الذين كانوا يطعنونها بالظهر، ويقدّمونها قطعة قطعة للغريب، ويهيئون له سبل تمزيقها، وقضمها، وتهويدها. فلسطين لم تخنهم، حتى وهي في قمة خذلانهم، وقد كان في وسعها أن تكون "شريكا" لقاتلها في قتل العرب والمسلمين، فهي أعرف الناس به، وأشدّ القوم خبرة بنفسيته، ولو قبلت بما عرض عليها على مدار سني النكبة السبعين، لكانت الحال غير الحال، لكنها أبت وستأبى أن تخذل أمتها، كما يفعل هؤلاء وأولئك من اللاهثين لبناء شراكةٍ مستحيلةٍ مع القتلة، فحتى وهم يتقرّبون ممن 
تلطخت أيديهم بدماء أبناء فلسطين، ويُحاولون إغواءهم بقبولهم، بشتى التصريحات والتلميحات السافلة، نقرأ في صحافتهم العبرية ألوانا من السخرية من "أبناء الصحراء" واستحالة أن يكونوا شركاء في "زواج سياسي" دائم أو استراتيجي، فهم ينظرون إليهم باعتبارهم بنت هوى، أو في أحسن حال "زوجة متعة"، يقضون معها وطرهم ليلة أو بعض ليلة، ثم يرمونها في أقرب حاوية، في مزابل التاريخ.
لا يعلم اللاهثون لإرضاء القاتل أنه لن يرضى عنهم مهما تفننوا في إرضائه، ولن يقبلوه شريكا حقيقيا، فهم يعلمون قبل غيرهم أن من يخون أشقاءه يخونهم، ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لعدو، نعم عدو، هم يقولون هذا حتى في وصفهم قبيلة الانبطاح والتطبيع ولعق بساطير الاحتلال.
(3)
ليعلم إذًا كل من ينال من فلسطين وأهلها، ومن يتطاول على تاريخها، ويُطيل لسانه القذر على شرفها، أن فلسطين التي قارعت، ولم تزل، أعتى وأطول احتلال في التاريخ، وأكثر القتلة إجراما وتنكيلا، قادرة على الدفاع عن نفسها، ومعها ملايين من محبيها العرب والمسلمين والأجانب، ممن لم يتلوّثوا بالخيانة، ولم تزل المشاعر الإنسانية النبيلة وحس العدالة ديدنهم. فلسطين كانت وستبقى مشعلا مضيئا في تاريخ النضال البشري ضد الظلم والعدوان، فقد أكرمها الله عز وجل وشعبها بمقارعة سفلة البشرية وحثالتها من صناع الموت والإرهاب والتآمر على كل ما هو جميل في هذا الكون. وهذا تكريم عظيم من رب العزة، فهي لا يحرّرها ديوثٌ أو فاجر باع شرفه لعدوه، وهو ليس بمشتريه، لأنه يعرف أنه شرف "مضروب" بلغة أهل السوق.