بين طوفان الأقصى وثورة 1936

بين طوفان الأقصى وثورة 1936

08 فبراير 2024
+ الخط -

إلى وقتٍ مضى، كنا نظنّ أن موقف النظام العربي الرسمي من عدوان الصهاينة على غزّة هو محض "خذلان" أو تواطؤ، أو في أحسن حالته "عجز"، ثم تبين أن الأمر يتجاوز كل هذه "المصفوفة" بمراحل، ففي كل يوم يثبت هذا النظام بمجمله أنه داخل في حلف استراتيجي ليس مع من يحتضن كيان العدو ويتبنّاه ويستثمر فيه، بل مع الكيان نفسه، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني الولاء والحب وحتى العشق، والتفاني في الخدمة.

أكثر ما كان يؤلم صياح امرأة أو طفل من تحت الرّكام في غزّة: "أين العرب؟" وأين المسلمون؟ وأين "إخوتنا" في الدين واللغة والوطن؟ هذه الصرخة تؤلم أكثر من أصوات الصواريخ التي يرسلها العدو لتفجّر مربّعا سكنيا في غزة، على رؤوس ساكنيه، فهذه الصواريخ لم تكن صهيونية خالصة، ولا أميركية أو بريطانية أو ألمانية أو فرنسية، بل كانت محشوة بأبجدية عربية فصيحة، لطالما قرأناها في بيانات جامعة الدول العربية، وبيانات اللقاءات الثنائية، وتصريحات نارية تصف فلسطين بأنها قضية العرب الأولى، وقضيتهم المركزية، ولطالما سكنت قصائد المنافقين وعشّشت في مقالاتهم، وهي تصف الموقف المبدئي لهذا البلد أو ذاك من بلاد العرب، نحو فلسطين وأهلها.

عقود خلت بل سنوات، ونحن نعتقد أن النظام العربي الرسمي لم يزل يحمل أملاً ما في التحرير أو على الأقل وقف تمدّد العدوان، والتقليل من توحشه، ولجمه عن ارتكاب الفظائع وجرائم الإبادة الجماعية التي لم تبدأ في غزّة، بل بدأت منذ ما يزيد عن قرن، ولكنها في معركة الطوفان الكاشفة وضحت الصورة كأبشع ما تكون، فالنظام العربي ضالعٌ في الجريمة، وأحد مفاعيلها النشطين، بهمّة عالية وحماسٍ قلّ نظيره، بل ربما يفوق حماسُه حرص العدو الصهيوني على القضاء على "حماس"، فهي من وجهة نظره عنوان الشر وأس "الإرهاب" وناقوس الخطر الذي يُؤذن بزوال سلطانه وهيلمانه وجبروته وسطوته وإرهابه، فهي إن نجت من بطش العدو (ناجية بعونه تعالى) فهي تفتتح عهدا جديدا ينهي تعبيد "الرعايا" لهذا أو ذاك من رموز النظام العربي الرسمي وطواغيته وأصنامه وزعاماته، فهي في تصنيف هذا النظام "عدو" يجب اجتثاثه من جذوره، هي رمز "لعين" من رموز الكرامة التي اجتهد النظام في مسحها من ذاكرة رعاياه، هي الكبرياء الذي تحوّل معناها إلى التمتّع بالانحناء لـ"ولي الأمر" وحتى تقبيل يده، والتنعم بالخضوع له، والتمسّح حتى بحجّابه وحرّاسه ومستشاريه وخدمه وحشمه.

لم نعد نصدّق أي كلمة "تدين" العدوان، من أي مسؤول عربي، ناهيك بالغربي، كل ما يقولونه محض وهم، فلا التحرير تحرير ولا حلّ "الدولتين!"

"حماس" هي الفيروس الخطير الذي يجب أن لا ينتشر ضرره وخطره في جموع الغافين المخدّرين، الذي يبلغ أقصى حلم أحدهم أن يحظى بالسلام على "ولي الأمر" أو حتى أحد مستخدميه، كي يضع صورته على بروفايل "فيسبوك"، أو يزيّن بها صدر مجلسه.

ركلت "حماس" بأقدام مجاهديها الحفاة طبقاتٍ من الذلّ المتراكم على العقل الجمعي العربي، وأيقظت في نفوس الملايين شوقا دفينا للانعتاق من عبودية الأنظمة، وقهرها وسحقها آدمية رعاياها، وفي اللحظة التي ارتقى مقاتلوها دبابات عدوهم وأثخنوا في مرتزقته، دقت كل نواقيس الخطر في قصور العرب والعجم، فتلك لحظة "تاريخيّة" تؤذن بيقظة "لعينة" لمشاعر لطالما اجتهدوا في دفنها، ومعاقبة كل من يحدّث نفسه بها، إذ كيف "تتجرّأ" تلك الثلة المجاهدة وتدخل على بيوت من سرقوا بيوتهم وأرضهم وعرضهم، ويُثخنوا فيهم قتلا، وهم أعدّوا كي يكونوا الأسياد الذين يجب أن لا يرميهم أحد بوردة، حتى ولو فعلوا الأفاعيل بالأسرى والمسرى والحجر والشجر والبشر؟

لم نعد نصدّق أي كلمة "تدين" العدوان، من أي مسؤول عربي، ناهيك بالغربي، كل ما يقولونه محض وهم، فلا التحرير تحرير ولا حل "الدولتين!" ولا التسويات "العادلة" ولا كل هذه الهذرمات، تحمل أي معنى غير تزجية الوقت وإعطاء العدو مزيداً من "الفرص" لسحق المقاومة، واجتثاث أي إحساس بالكرامة والكبرياء، ألسنتهم مع فلسطين وقلوبهم وسلاحهم ودعواتهم وقيامهم وجلوسهم مع "إسرائيل". كان يمكنهم فعل الكثير حتى من دون أن يريقوا قطرة دم واحدة من جنودهم، ولكنهم لم يفعلوا، ليس عجزاً بالطبع، ولكن عن سابق إصرار وتصميم وتخطيط. المقاومة هنا هي الشر المستطير الذي يجب أن يدفن تحت الأنقاض وفي الأنفاق، كي لا يخرج وتشيع "شرورُه" في فضاء العرب ويبعث في نفوسهم شوقهم "المحرّم" في الحرية والكرامة والكبرياء.

بكلمة واحدة من أحد رموز النظام العربي الرسمي، يمكن وقف العدوان غداً

 

هي ليست معركة بين "إسرائيل" وفلسطين، بل بين حلفين، حلف عربي غربي استراتيجي لإبقاء العرب في ذيل قائمة البشر وحلف يتوق للانعتاق من الاستبداد والاستعباد بكل ألوانه وأشكاله، ولهذا "تجب" هزيمة من يدقّ أبواب الحرية، وقطع يده، ونسله من بعده، وهدم بيوته على رؤوس أهله، وتفجير مدارسه وجامعاته ومستشفياته، وحرق كتبه، وتجريف شوارعه، كي يتوب كل من يسلك سلوكه عن مجرّد التفكير في هذا "الشر" المستطير.

بكلمة واحدة من أحد رموز النظام العربي الرسمي، يمكن وقف العدوان غدا، لا نتحدّث عن سلاح البترول، ولا عن المقاطعة الحقيقية للكيان وعدم استخدام أراضي العرب لنجدته، بل بدعوة الأمم المتحدة لتغيير مكانة "دولة إسرائيل" في المنظمّة الدولية من عضو إلى مراقب، وعندها ستجثو إسرائيل على ركبتيْها، ثمّة عشرة إجراءات كهذا يمكن أن يقوم بها العرب يعرفها خبراء القانون الدولي (المستشار حسن أحمد عمر مثلا، ابحثوا عما يقول وستجدون العجب العجاب)، ويعرفها أيضا عشرات من هؤلاء الخبراء، ولكنهم لا يريدون، لأنهم جزء من حلف استراتيجي عربي غربي لسحق المقاومة والكرامة، وكما فعل أجدادهم مع ثورة العام 1936 الفلسطينية العظيمة وأجهضوها، بعد أن كانت قاب قوسيْن أو أدنى من تحرير فلسطين، ها هم أحفادهم يعيدون الكرّة مع "طوفان الأقصى"، ويحاولون بكل قوة حرمان المقاومة من قطف ثمار نصرها، كي لا يغرقهم الطوفان كما أغرق أسيادهم.