عن استراتيجية الجيش المصري في سيناء

عن استراتيجية الجيش المصري في سيناء

01 يونيو 2020
+ الخط -
حينما احتلت إسرائيل سيناء، أنشأت فيها 21 مستوطنة بين العامين 1967 و1978، وقد تم تشييد هذه المستوطنات على أسس اقتصادية، فمستوطنة ناحال سيناي بُنيت في مزرعة ناصر النموذجية التي أنشأتها قبل حرب يونيو/ حزيران 1967 مؤسسة تعمير الصحارى المصرية، واستغلها المستوطنون لتربية الدواجن، كما زرعوا أرضها بالخضار، إلى جانب أشجار الزيتون. وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، انسحب من سيناء ما يقارب الستة آلاف مستوطن، وكان الإخلاء جزءًا من الاتفاقية. منذ تلك اللحظة، لم يحاول النظام المصري أن يقوم بعملية تعمير سيناء، أو الاستفادة منها، بل قام بعملية انتهاكات واسعة ضد أهلها، وحملات من التشويه التي استهدفتهم، وحاولت إظهارهم في صورة الخونة أعداء الوطن. زادت وتيرة هذه الانتهاكات وحملات التشويه مع صعود الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، ومع حملات التجريف والإخلاءات القسرية التي قام بها الجيش. وهذا الأمر مؤسس فقط على الرؤية الأمنية، واستخدام القوة الغاشمة التي يراها الجنرال السيسي، والذين معه، الحل الأوحد، وقد عبر هو بنفسه عن ذلك أكثر من مرة.
مع صعود السيسي إلى السلطة في 2014، حدث اتفاق بينه وبين الجانب الإسرائيلي على تعطيل بنود الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد التي سمحت بدخول أعداد تخطت الـ40 ألف عسكري وشرطي وأسلحة ثقيلة وطيران داخل المنطقة "ج" في أثناء العملية الشاملة التي تم إطلاقها في العام 2018؛ إضافة إلى أن اسرائيل أدّت خدمات أمنية جليلة لمصر عن طريق الإمداد بالمعلومات عبر شبكة من العملاء على الأرض؛ ففي 2017 اغتالت إسرائيل بطائرات دون طيار عنصرًا من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) داخل سيناء بعد يوم من استهدافه مستوطنات بصواريخ غراد؛ وقد تحدثت الصحافة الاسرائيلية عن هذا، وهذه ليست الحالة الوحيدة.
بناء على هذا التعديل الذي حدث في بنود اتفاقية كامب ديفيد، فإن أجندة الحل الأمني من جانب 
النظام المصري تصدرت المشهد، وأصبحت هي الاستراتيجية التي ينتهجها النظام لحل مشكلاته، وهذا الحل لن يكون قادرًا على الصمود فترات طويلة، حتى وإن حقق بعض التقدم في هذا الملف، لكنه تقدم مرحلي، وخسارة استراتيجية على المدى البعيد. صحيح أن هناك نوعًا من الشلل لتنظيم الدولة الإسلامية، والذي تمثل في انخفاض وتيرة العلميات التي شنها طبقًا لتقارير دولية، لكن السؤال هو بأي تكلفة حدث هذا؟ والسؤال الآخر حتى لو قلت عمليات التنظيم، فهل انخفض عدد ضحايا هذه الهجمات؟ في ما يتعلق بالتكلفة، فهي عالية جدًا، وباستخدام معدّات ضخمة، ومحو قرى كاملة من على الأرض، وقتل للمدنيين. وقد كان من الممكن الوصول إلى تلك النتيجة نفسها من خلال قوات متخصصة في مكافحة الإرهاب. ثانيًا: هذه الاستراتيجية القائمة على الحل الأمني غير مجدية، لأنها باختصار استراتيجية جيش نظامي في مواجهة مليشيات تنتهج حرب العصابات، وهي حرب منهكة للجيوش النظامية. ثالثًا: مع عمليات الإخلاء والتهجير التي قام بها الجيش، حدث نوع من التغيير والتحول في استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية، وهو أنه بدأ يقوم بالعمليات في منطقة غرب القناة، كما حدث في عملية بئر العبد في العريش أخيرًا، وبالتالي هذا تطور نوعي ودخول في العمق. وهذا أيضًا يطرح أسئلة عديدة حول قدرة التنظيم على التنقل، والتأقلم وحول الحاضنة المجتمعية للتنظيم، وعدم قدرة الحل الأمني على اجتثاث التنظيم من الناحية الفكرية، وبالتالي لا بد من حل سياسي بالتوازي مع الحل الأمني. رابعًا: انخفاض وتيرة العمليات بسبب هذه التكلفة الضخمة جدًا (من أموال ومعدّات ومحو قرى كاملة من على الخريطة)، وفي أرض هي أرضك لا يعني نجاحًا مطلقًا، بل هو فشل وعدم دراية بطبيعة 
أرضك التي تحارب عليها. ولعل هذا الأمر يدحض ما يروجه أتباع النظام أن الأميركيين فشلوا في أفغانستان ومن قبلها في فيتنام، والجواب هنا بسيط، لأن الجيش الأميركي قاتل في أرض ليست أرضه، ولا يعرف طبيعتها، بينما سيناء أرض مصرية، ولا بد للجيش المصري أن يكون عالمًا بطبيعة أرضه. خامسًا: وكما أشير سابقًا، في ظل الحل الأمني فقط من دون أن يكون هناك تعمير لسيناء أو حل سياسي بالتوازي يكون أهل سيناء طرفًا فيه، ووقف حملات التخوين والتشويه المستمرة لهم، وعمليات التهجير وغيره من الاستراتيجيات الأمنية الخاطئة، والتي تعزز من الحاضنة المجتمعية للتنظيم، لن نصل إلى حلول، بل ستستمر سيناء نقطة صراع يتم استهلاك الجيش المصري فيها، وتحويله إلى قوة لمكافحة الإرهاب ليس أكثر.
نقطة أخرى يجب التنويه إليها، أن تلك الحرب المستمرة على الإرهاب تساعد النظام المصري نفسه في تغذيتها، فما يحدث في السجون المصرية في غاية الخطورة، فالسجون تحولت إلى بؤرة خطيرة جدًا في عمليات تجنيد العناصر الإرهابية، وبالتالي تحولت إلى مفرخة للتكفيريين. ففي الوقت الذي لا يريد نظام السيسي أن يقوم بأي فتح للمجال العام ومحاكمة المعارضين السياسيين بقوانين الإرهاب، وتصاعد التعذيب في السجون، ووجود تكفيريين عديدين داخل السجون، يتحول المساجين إلى مادة حية سهلة التشكيل والتجنيد بالنسبة لهؤلاء التكفيريين فيتم تجنيدهم، ويشكل دافع الانتقام من النظام أساساً لهذا التجنيد، كما رأينا ما حدث من تحولات لدى شباب إسلاميين عديدين قرروا أن يكونوا جهاديين من أجل الانتقام من النظام المصري الذي أطاح الرئيس الإسلامي محمد مرسي، وارتكب مذبحة رابعة. وهنا نجد أن العنف تحول إلى "ظاهرة" عن طريق إيجاد بيئة خصبة للتجنيد، وتمكين الإرهابيين من امتلاك خطاب مظلومية وزيادة اليقينية عند مناصرين كثيرين لهم قناعة بعدالة قضيتهم.
على الرغم من هذا الموقف المعقد الآن، قد يتساءل سائل عن أسباب استمرار دعم الدول 
الكبرى النظام المصري، وما هي طبيعة التحالف بين النظام المصري وإسرائيل في هذا الملف الحساس؟
أولًا الدعم الغربي لن يتوقف عن السيسي، إلا إذا قرّر الشعب المصري ذلك، وخرج مرة أخرى إلى الشوارع، حينها سيستجيب الغرب لذلك كما حدث في انتفاضة يناير 2011. ثانيًا: منذ جاء إلى السلطة، أسس الجنرال السيسي شرعيته على مكافحة الإرهاب، وتحسين الوضع الاقتصادي، وأيضًا توقف تدفق اللاجئين على أوروبا. وإذا ما تم إبراز فشله في ملف مكافحة الإرهاب، خصوصًا في سيناء، فهذا معناه فقدان جزء من شرعيته، فمن دون الحرب على الإرهاب، وقانون الطوارئ بتعديلاته المختلفة، لم يكن في مقدور الجنرال السيسي أن يتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، أو أن يقوم بإخلاء سيناء وتهجير أهلها، وبالتالي تحويل سيناء إلى منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل، ما زاد من عزلة سيناء الجغرافية، كما أشرت، بالتنازل عن الجزيرتين، وكذلك بالتفريعة الثانية لقناة السويس.
في ذلك كله، يستمر نزيف الوطن، ويتم استغلال الحرب على الإرهاب، لتصدير أن الجنرال وحده القادر على حماية مصر وأمنها، وأنه لا بد من القبول بشروطه من قمع وسحل وتعذيب.
رحم الله شهداء الوطن الذين يضحون بأرواحهم من أجل أوطانهم، وليس من أجل أفراد يقبعون على رأس السلطة.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.