الوزير المخدوع

الوزير المخدوع

17 مايو 2020

(Getty)

+ الخط -
في تونس بن علي، وفي بداية عهده، وفور قيامه بانقلابه "الصحي" على مؤسس الجمهورية، الرئيس الحبيب بورقيبة، سنة 1987، دفع التفكير الرغبوي مثقفين من تونس ودول عربية، كما من أوروبا، إلى الاعتقاد بأن هذا الرئيس "الشاب" سيحرّك المياه الراكدة، ويمنح هوامش أوسع من الحرية التي غابت عن مجالات التعبير، خصوصاً في عهد الرئيس المؤسس. وعلى الرغم من الإشادة بالإنجازات الاجتماعية التحرّرية التي أسس لها بورقيبة، إلا أن الانتقاد كان يشتد ضدّه مع تقدمه بالسن ونزعته التسلطية. التفكير الرغبوي هذا دفع بعض أصحاب العقل المتحرّر والمناقبية الصافية والإيمان بالديمقراطية إلى قبول الانخراط في مؤسسات الحكم الجديد، خصوصاً الثقافي والتعليمي منها، سعياً إلى تقديم ما يستطيعون من خبراتهم ومن معارفهم لتطوير الوعي والذائقة. وقد وقع في المصيدة عدد لا بأس به من الساعين إلى نهضة المجتمع علمياً وثقافياً، وسرعان ما أصابهم الإحباط، أو أنه تم إقصاؤهم عن مناصبهم فور فقدان الحاجة إليهم لتلميع صورة النظام الجديد. 
وفي أثناء زيارة لي إلى تونس، منتصف التسعينيات، وددت زيارة صديق عزيز كان له منصب رفيع في هذه الحقول، إلا أنه آثر أن يحضر إلى مكان إقامتي البعيد عن العاصمة لنجول في سيارته من غير هدفٍ محدّد. بداية، استغربت هذه الطريقة التي اختارها للقائي، خصوصاً وأنني، وعلى غير العادة، أقابل مسؤولاً رفيعاً، وليس معارضا سياسياً أو حقوقياً مُتابعاً من عسس السلطة، كما كانت عليه أكثر علاقاتي في هذا البلد الجميل. وقد تجرّأت متسائلاً عن السبب، فكان جوابه شديد الوضوح: كان يود الحديث معي بارتياح، بعيداً عن أجهزة التنصت في الفندق، أو في مكان عمله، أو حتى في مكان إقامته. وهكذا، كان اللقاء السيّار، وأنا أعاني عموماً من الدوار عند الحديث في وضعية النظر إلى السائق وحركة العربة، وقاومت الرغبة في الغثيان التي راودتني مراراً. وقد طال التجوال ساعتين على الأقل، طفنا خلالها جُلّ أحياء الضاحية الشمالية للعاصمة في عتمة الليل مع وقوف سريع على بعض حواجز العسس المنتشرة في هذا المربع الأمني المهم حينذاك، حيث يقيم الرئيس وحاشيته، إلا أن العسس لم يدققوا كثيراً في طبيعة الركاب، وكان كلام صاحبي ينقطع عند الاقتراب ليعود نشيطاً عند الابتعاد.
في طريق العودة إلى الفندق، سألته، بصراحة تقارب الوقاحة، عن سبب قبوله "اللعب بالنار" مع 
نظام تسلطي لا تُناسب طبيعته الاستبدادية وأداؤه الفاسد والقمعي قناعات صديقي، ولا أخلاقياته الرفيعة. وكان محرجاً بعض الشيء في الإجابة، مُشيراً إلى رغبته في النظر إلى النصف أو الربع أو أقل الممتلئ من الكأس، وترك الفارغ منه، أو ما هو ممتلئ بالفساد والقمع والتسلط، لعتمة الليل للعنه والدعاء عليه، سعياً منه إلى إصلاح ما يقدر عليه في حدود اختصاصه. لم يطل مكوث صاحبي في منصبه، حتى أُخرِج منه بأسلوبٍ يليق بحكم بن علي الذي تكشّف أكثر فأكثر مع مرور السنوات.
في سورية، وفي بداية عهد بشار الأسد، انضم شرفاء ومصلحون حقيقيون إلى عجلة الحكومة، اعتماداً على مبدأ صديقي التونسي. وغاب عنهم ماضٍ عريقٍ للمؤسسة الحاكمة وأساليب ماكرة في استخدام الجيدين، ولفظهم شبه أموات جسدياً أو نفسياً. وكما صاحبي التونسي، كان صديقٌ عائليٌ مقرّبٌ جداً، يعيش بعيداً عن البلاد منذ عقود، وتتفاخر الدول التي تستضيفه بما يفيدها من خبراته ومن معارفه. عاد مغشوشاً إلى دمشق، وتسلم منصباً رفيعاً. وذات يوم، زرته في المكتب، فحدّثني فوراً بلغة الإشارة، لنخرج باتجاه سيارته التي أراد أن يقودها بنفسه، إلا أن السائق رفض، بكل لطفٍ ولباقة. وبالتالي، تابع مستضيفي لغة الإشارة معي، وطلب من السائق أن يتوجه بنا إلى قاسيون. وفي قمة الجبل، خرجنا للتريّض بعيداً عن السائق. حينها قال لي: سأموت من القهر. ولا حاجة لتكرار ما حدّثني به صاحبي التونسي، فالدوافع تتشابه، ولكن الورطة هنا ليست كما في تونس بن علي. فأولاً، لا يمكنك أن تستقيل وإنما تُسرّح. وثانياً، تسريحك لا يتم صمتاً، وإنما يجب أن تُهان وتوصم بالفساد، وأن يتم التشنيع بك في وسائل الإعلام "الحرّة" في الإساءة إلى الشرفاء. وبالتالي، تعرّض الصديق المسؤول إلى حملة إعلامية اتهم من خلالها بالفساد، لأنه فعلاً حاول مقارعته في حيّزه الضيّق. وانتهى به الأمر إلى الإقالة والموت قهراً.
وزيران عربيان صدّقا أن نظاماً تسلطياً يستيقظ ذات نهار، ليقول لنفسه أمام المرآة: سأبدأ بالإصلاح وبتحرير القيود وبفتح السجون ومنح الحريات واحترام الحقوق. أولهما أُقيل بهدوء وعاد إلى جامعته، لأن نظامه التسلطي غير عابئ به، وبما يُمثله، واستخدمه حتى انتهاء صلاحية الغش والخداع الذي استعان بهما على رأيه العام المحلي، وعلى الرأي العام الدولي. أما ثانيهما، فقد كان في منظومةٍ أشد تعقيداً أودت به إلى الموت.
مؤكّد أن الحالات المشابهة تعم العالم العربي، وهناك كثيرون عبروا تجربتي الوزيرين، وهذا تأكيد على أن الجهل بآلية الاستبداد ما زال مهيمناً، لأن المستبد عندما يسعى إلى إصلاحٍ حقيقي فهو يسعى إلى موت حكمه.