يوم المرأة .. وطعْنات في قلب الأمومة

يوم المرأة .. وطعْنات في قلب الأمومة

12 مارس 2020
+ الخط -
المرأة اللبنانية في يومها، تتلقى أربع طعنات خنْجر مسْموم: 
أولى الطعْنات: في كل تظاهرات الثورة، عندما أُعطي الكلام للنساء، وقد اشتركن فيها بكثافة غير مسبوقة، كان إجماعهن على حرقتهن بهجرة أولادهن بحثاً عن لقمة العيش والأمان. بعض الرجال اشتركوا في هذه المرْثية. لكن صوت النساء كان مبحوحاً، صادحاً، ملتاعاً. حنْجرتهم ملتهبة، يخترقها الشوق الجارف؛ على الأولاد الذين سهرت عليهم بالليالي، على التنشئة المرّة، على الركض إلى الملاجئ.. ثم على فراقهم، الواحد بعد الآخر، على تحوّل حياتها إلى قلق وانتظار وسؤال يومي "نحن بخير...". إلى شحاذة صورة أو صوت للأحفاد الذين يكبرون بعيداً، من دون جدّة، من دون جدّ. يا له من جحيمٍ داخلي، وتيارات البحار والمحيطات، الفاصلة بينها وبينهم.. كل هذا تلْمسه لمسْ اليد. المرأة اللبنانية، البرجوازية الصغيرة وما دون، هي امرأة مفتقدة لأولادها وأحفادها المهاجرين الذين لفظتهم العصابة الحاكمة من الوطن إلى أرجاء الله البعيدة. ثم يأتيك، في خضمّ هذا البوح الصافي، زلّة لسان لرئيس جمهورية بقولٍ بات مأثور، يلخّص ما يدور في أعماق تلك العصابة. قال للبنانيين، في ردّ على سؤالٍ لصحافي تجاوز خطوط الضبط، بأنه إذا لم تعجبهم، أي اللبنانيين، حلولنا، فليهاجروا!... كأنه في كوكب الغائبين. أي فرد من العصابة لم يتفوّه بكلمة، تعليقاً أو رداً، على هذه الشناعة. أما "بيئة" هذا الرئيس، أو جمهوره، فلا تسأل عن العقل.. هم أنفسهم اختاروا نائبة في البرلمان، تنافسهم على أبناء الطائفة، ليعيّروها بعدم الإنجاب.
الطعْنة الثانية. في الوقت الذي تربّيه برموش العين، كل خطوة من خطواته معجزة من السماء، 
كل هواء يتنشقه مكْسب إلهي.. تراها عندما يصبح بعمر حمل السلاح، أو قبله أحياناً، يتطوّع، أو يتفرّغ، للقتال تحت قيادة مليشيا، تخدم المجال الحيوي للجمهورية الإيرانية، بما اكتسبه من مهاراتٍ اكتسبتها، خلال جولاتٍ مختلفة من القتل. الأمهات الشيعيات، بالذات، يعشنَ هذه الطعْنة بما توفره من سموم، من قهر واستهانة. وأخيرا، بمناسبة مشاركة هذه المليشيات في شمال سورية، وبعدد غير مألوف من القتلى في هذه "الساحة"، يخرج علينا إعلام هذه المليشيا بشريط فيديو، يُراد منه نثْر سموم خنجره على أعماق النفس الأنثوية. في الفيديو، الأم تنعى ابنها المقتول في سورية، قبيل دفنه، وهو مسجّى على تابوته، ملفوفٌ بقماش الموت، مكشوف الوجه، وهي راكعة بالقرب منه، لابسة التشادور الأسود، تقول له بدم بارد، وبصوت كأنه مدروس، بأنها سعيدة بـ"استشهاده"، سعيدة بأنه سيلاقي شقيقه الذي سبقه إلى الجنة؛ وعبارات من هذا القبيل. إذا لم يهاجروا عليهم أن يموتوا. وإذا ماتوا عليكم أن تفرحوا، أن تعتزوا.. أسوة بأم الشهداء، أيقونة الخنجر في قلب الأمومة، "والدة الشهيد فلان".
الطعْنة الثالثة. وكانت الثورة، بشقّها الأنثوي، محقّة، عندما اختارت أن تكون قوانين الأحوال الشخصية عادلة، وفي أرقى الحالات، مدنية.. أن تكون هي الحاكمة لمصائر النساء: من زواج وطلاق وأولاد وإرث. المحاكم الدينية الطائفية، ذات الإرث العريق في تعزيز دونية المرأة، هي المسيّرة لهذه المصائر. كلها تمارس بما يشبه أعتى أنواع الظلم الخافت. ولكن، أخيرا، سطعَ نجم المحاكم الجعفرية الشيعية، وطغت على نظيراتها من محاكم طائفية. والأمر مفهوم، لأن حاكم هذه المحاكم هو حزب الله، الأصولي، الأكثر رجعية من البقية، بعقيدته المذهبية المستوردة من إيران الإسلامية. ومعروفةٌ هي قصة النائب الذي أقاله هذا الحزب، لأنه قام "بتجاوزات" دفاعاً عن حق ابنته في حضانة أولادها؛ "تجاوزات" لا تُقاس بتلك التي "يغطّيها" هذا الحزب يومياً. النقطة صارت ناتئة، في هذه المحاكم؛ عشرات القصص شبيهة بقصة ابنة النائب الذي تجاوز إيمانات حزبه القائد، دفاعاً عن أمومة ابنته. ولكن، أيضا أخيرا: ذاع شريطٌ لأم أخرى، لينا جابر، غلبتها المحاكم الجعفرية بجورها. لم تكتف بحرمانها من ابنتها، إنما "غطّت" زوجها "المسْنود" الذي أقام سياجاً حول قبرها، ومنعها من الاقتراب منه. وفي الشريط، لا نرى لينا، فقط ظهرها.. مفجوعة، راكعة على الأرض، تمسّك بالسياج، تبكي وتناديها، تكلّمها. وأراهن شخصيا إن كان بوسع أحد إكمال مشاهدته الشريط حتى نهايته، فيما رئيس المحكمة الجعفرية، محمد كنعان، يعلن، من على منبر مخصّص للبحث في قضيتها، أن "أحكام الله لن تتغير".
الطعْنة الأخيرة. تجاه الأمهات اللواتي قادهن حظهن السيئ إلى الاقتران بغير لبناني. أي، بالعربي الصريح، بسوري أو فلسطيني؛ إذ تقع على حاملي تلك الجنسية غالبية النساء اللواتي يتزوجن 
غير لبناني. غيرهن من بنات العصابة ليس هذا مصيرهن؛ إذ توجد دائماً "ترتيبات" لمنح أولادهن الجنسية العزيزة هذه. على أي حال، تصوّر مثلا، أمل كلوني، اللبنانية الأصل، زوجة النجم الأميركي جورج كلوني، تطلب الجنسية لأولادها التوائم. ستكون "الدولة" فخورة بطلبٍ كهذا. ولكن أيضاً، هل تحتاج أمل كلوني، أو غيرها من نساء الفئة "المتميزة"، إلى الجنسية اللبنانية التي باتت الآن عنواناً دولياً للكذب والفشل؟ أما الأمهات الأخريات، فبلى: أولادهن من غير هذه الجنسية محرومون من الحقوق الدنيا، منها مثلاً الحق بالعيش في لبنان، من دون الاضطرار للتعاطي مع رجال الأمن الذين ينْضحون باللامبالاة والفساد الرخيص. كأنها ليست أماً، كأنها لم تعطِ الحياة. لا تعترف الدولة بأمومتها. تحيلها إلى مجهول، أو "لاجئ سوري"، طالَ صبر العصابة على تحمّله، لكن لم يطل كفاية لابتزازه والمتاجرة بمأساته.
الخناجر الأخرى لا تقلّ سموماً. هي أسهم صغيرة، ولكنها مثل الجيش في وتيرتها. أسهم منتظمة، جروحها "معتدلة"، أوقاتها من اليوميات الرتيبة، تصيب المرأة، أكانت أماً أو غير أم، في صميم كينونتها. ومعها ملحمةُ من اليوميات العادية. مقاومة بلا انتصارات إلهية، بلا ضجيج، بلا تبجّح، بلا شراء وبيع في سوق القضايا "العادلة". مقاومة دفاعاً عن الحياة.