تونس وحكومة ضرورة الحد الأدنى

تونس وحكومة ضرورة الحد الأدنى

23 فبراير 2020
+ الخط -
يقدّم رئيس الحكومة التونسية المكلف، إلياس الفخفاخ، حكومته، الأربعاء المقبل، أمام البرلمان للحصول على تزكيته، وهو الحل الذي نص عليه الدستور الذي توقع مثل هذه الحالة التي يعجز فيها الحزب الفائز في الانتخابات (حركة النهضة) عن تكوين الحكومة، وذلك ما حصل فعلا، خصوصا في ظل تشتت النخب السياسية، وعزوف الناخبين المستفحل، وتعقّد نظام الاقتراع، وهندسة النظام السياسي برمّته كما صاغه دستور 2014. آل الأمر إلى رئيس الجمهورية الذي اختار من بين ثلاثة مرشحين صعّدتهم الأحزاب الفائزة، إلياس الفخفاخ. أجرى الرجل ماراثونا من اللقاءات المضنية، وأحيانا العبثية من المشاورات السياسية، حتى كاد يستسلم، غير أنه استعاد المبادرة في الأمتار الأخيرة، خصوصا وقد أسعفه رئيس الجمهورية في هذه الأمتار، حينما رفض اجتهادات في الدستور الذي يجيز، حسب رأي بعض الأحزاب، سحب الثقة من رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، والذهاب مباشرة إلى تعيين رئيس حكومة جديد. تمسّك رئيس الجهورية بتأويله الخاص للدستور، وهو أستاذ القانون الدستوري، خصوصا في غياب المحكمة الدستورية، رافضا تلك الاجتهادات، ومهدّدا، في الوقت نفسه، بحل البرلمان والذهاب إلى انتخاباتٍ سابقة لأوانها... كانت البلاد تقريبا أمام مهلةٍ لا تتجاوز الأيام الثلاثة لتكوين الحكومة، وحدثت المعجزة، والجميع على شفا الحفرة من السقوط في ذلك السيناريو الذي يخشاه الجميع. 
يُعد الفخفاخ من طبقة السياسيين حديثي العهد بالسياسة، أو تدقيقا أولئك القادمين إليها بعد الثورة 
من مساراتٍ لم يخوضوا فيها نضالات ضد استبداد نظام بن علي. كان خرّيج الجامعة التونسية، ثم واصل تعليمه العالي في فرنسا، ثم اشتغل في عالم الأعمال قبل أن يعود إلى تونس. انضم إلى حزب التكتل من أجل العمل والحريات بعد الثورة مباشرة، وهو حزب يلتف حول زعيمه التاريخي، مصطفى بن جعفر، الذي ترأس المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، ويلقب بأب دستور 2014، شكل مع حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية تحالف ثلاثي "الترويكا" التي حكمت تونس مباشرة بعد انتخابات 2011. وتولى الرجل، في أثناء فترة حكم الترويكا، حقيبة وزارة المالية، ثم السياحة لاحقا. عُرف بهدوئه وانتمائه إلى خط ليبرالي، من دون إنكار أنه ينتمي إلى العائلة الديمقراطية الاجتماعية، فقدومه من عالم الأعمال ذلك لم يقطعه عن هذه الخلفية الاشتراكية المرنة. ابتعد في السنوات التي تلت انتخابات 2014 عن الأضواء لعدة أسباب، خصوصا مع تراجع حزبه في المشهدين، السياسي والحزبي، ولكنه ظل حاضرا، بمساهماته الإعلامية وحضوره الندوات ذات العلاقة بالتحولات الاقتصادية الكبرى والملفات المهمة. عاد بشكل بارز، حين حانت الانتخابات الرئاسية، وقدم ترشحه، واستطاع أن يشدّ انتباه النخب، خصوصا لتميز خطابه، وأدائه الإعلامي الجيد: نبرة حاسمة وإلمام دقيق بالملفات الاقتصادية والاجتماعية ورؤية واضحة، على خلاف عديدين نافسوه، حينما ركنوا إلى لغة خشبية تعوم القضايا. لم يحالفه الحظ في الانتخابات تلك، ولكنه ترك انطباعا جيدا. كان طيف واسع من الناس يقولون ربما من السابق لأوانه أن يكون رئيس جمهورية، ولكنه يصلح لأن يكون رئيس حكومة. حقق له الحبيب الجملي بسقوط حكومته هذه النبوءة، فلم يتردد في تلبيتها، وقد اصطفاه رئيس الجمهورية، قيس سعيد، من بين ثلاثة. لم يتردد إلياس الفخفاخ في إعلان أنه على خط قيس سعيد، وأنه سيكون ضمن "خطّه التحريري"، وهو ما أثار جملة من التحفظات، خشية "تغول" مؤسسة رئاسة الجمهورية، خصوصا أن الرئيس لا يخفي هذه النزعات، تغذّيها لديه رؤى شعبوية، تستند إلى فكرة الزعامة، بقطع النظر عن توفر شروطها فيه.
اندفع الفخفاخ تحت الوفاء لخط سعيد الذي تماهى مع "الوفاء للثورة" إلى اتخاذ مبادرات جريئة وصادمة لبعضهم أحيانا، حين أصرّ، منذ الساعات الأولى، على تلقيه خطاب التكليف، على أن يشكّل حكومته بمن أطلق عليهم "صف الثورة"، مستبعدا صراحة الحزبين، الحر الدستوري، لارتباطه الوثيق بنظام بن علي، وقلب تونس، المتهم بالفساد. ولكن الأيام بيّنت لاحقا أن هذا الصف الثوري تشقّه صراعات حادّة قد تكون أعنف وأشرس من صراعاته مع خصوم الثورة وأعدائها. لعقت "النهضة" جراح إسقاط حكومتها، واستجمعت قواها، ولكنها لم تستطع أن تغفر لحلفاء الصف الثوري هذا إزاحتهم الحبيب الجملي وحكومته المقترحة تحت قبة البرلمان. لذلك 
بحثت "النهضة" عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم فيها حزب قلب تونس، وقد ذكرت ذلك مرّات عديدة، وهي التي وعدت، في خطابها الانتخابي، بمحاربة هذا الحزب باعتباره عنوان الفساد. تناست الحركة وعودها تلك، لجملة من الأسباب، لعل أبرزها خشية من أن يستفرد بها خصوم الأمس، فيعزلوها في حكومةٍ تبدو فيها أقلية، فأزمة الثقة ما زالت مستفحلة بين "النهضة" وخصومها، ومن المستحيل إعادة بنائها بمثل هذا اليسر. السبب الثاني حصة الحركة التي تعتقد أنها لا تراعي حجمها الانتخابي. لذلك هي تلوم الفخفاخ على أنه عاملها كبقية الأحزاب. وأخيرا، تخشى أن ينقلب عليها حزب قلب تونس، وهو الذي أهدى لها رئاسة مجلس النواب، حينما آلت إلى زعيم الحركة، راشد الغنوشي، ويتحالف مع خصمها اللدود، الحزب الحر الدستوري.
ظل إلياس الفخفاخ، نحو ساعتين، قبل انقضاء الآجال الدستورية، وهو يُعصر بين رغبات متناقضة لفرقاء حوّلوا كواليس التفاوض إلى ساحةٍ لتصفيات حساباتهم، خصوصا أن بينهم تراثا عميقا من انعدام الثقة والصراعات المريرة. مع ذلك، ستمر الحكومة أمام مجلس النواب، ولكن مهمة الفخفاخ ستظل شاقّة، بالنظر إلى هشاشة حكومته. عليه أن يعمل على واجهتين: تحقيق أهداف الثورة المعطلة، العمل خصوصا للشباب الذي اكتوى بالبطالة والخدمات الاجتماعية الجيدة في قطاعات التعليم ولعموم المواطنين. تنمية رصيد الثقة بين الفرقاء، وتحقيق تضامن حكومي، أساسه الانسجام.

دلالات

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.