هل صار موقف عربي في أي يوم؟

هل صار موقف عربي في أي يوم؟

16 فبراير 2020
+ الخط -
هناك مناهج يمكن استخدامها لتحليل السياسات الخارجية للدول، منها المنهج التاريخي الذي يفسر السياسات الخارجية طبقا للجذور التاريخية وتطوراتها، وكذلك المنهج الواقعي المستخدم في جامعات مصرية عديدة، أو المناهج المعتمدة على الجغرافيا السياسية والخرائط الإقليمية وتفاعلاتها. ويحاول علم السياسة الخارجية، بشكل عام، تفسير ظواهر سياسية واجتماعية سابقة وتحليلها، ليتم وضع ما تشبه قواعد علمية، تفيد الدارسين والباحثين، وتفيد في تفسير ظواهر جديدة ودراستها، أو تصبح كما لو أنها قواعد استرشادية لصانع القرار، بالإضافة إلى الدور المفيد في عملية صنع السياسات الخارجية والقرارات السياسية. وتحاول كتابات أكاديمية كثيرة تحليل السياسة الخارجية العربية ورصدها، ولكن هذه الكتابات تُجمع على عدة خواص، منها أن السياسة العربية والقرارات السياسية العربية ترتبط دائما بشخص الحاكم، وليست نابعة من تخطيط طويل المدى أو تحليل سليم. وتتميز القرارات السياسية الخارجية للدول العربية بأنها انفعالية عاطفية، وكثيرا ما تتغير بتغير أشخاص الحكام وعلاقاتهم الشخصية بعضهم بالعض الآخر. وتتسم خلافاتهم التاريخية، وكذا السياسة العربية الخارجية، بوجود ظاهرة الأحلاف بين دول عربية ضد أخرى، والانشغال بالصراعات العربية - العربية عن أي تهديداتٍ أخرى خارجية.
هناك أيضا مصطلح النسق الإقليمي، ويقصد به الاتفاقات أو السياسات الخارجية أو التفاعلات 
والتصرفات لعدة دول في إقليم معين، قد يجمعها تقاربٌ جغرافيٌّ، أو مصير مشترك، أو تاريخ مشترك أو مصلحة مشتركة، وتعتبر المصلحة المشتركة من أهم مكوّنات النسق الإقليمي، وتكون العلاقة تبادلية أو ندّية مع الأنساق الأخرى، الاتحاد الأوروبي مثلا أو دول جنوب شرق آسيا.
أما النسق العربي، فبالطبع له خصائص مختلفة، فهو تابع للقوى الكبرى منذ نشأته، بالإضافة إلى عدم وجود رؤية موحدة للدول المكونة منذ البداية، بالإضافة إلى وجود الأحلاف والصراعات بين الدول العربية، منذ بداية وجود النسق العربي، كما أنه نسقٌ مخترقٌ من القوى الكبرى منذ زمن طويل، سواء كانت القوى الاستعمارية المسيطرة على المنطقة قبل الحرب العالمية الثانية، أو القطبين في أثناء الحرب الباردة، فالدول الاستعمارية أسهمت قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها في تشكيل معظم الدول والأنظمة العربية. أما بعد الحرب العالمية الثانية فكان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يتنافسان للوجود في المنطقة، واستقطاب الدول العربية في ما بينهما، عن طريق المعونات الاقتصادية أو العسكرية أو الخبرات أو الاتفاقيات التجارية.
وليست هناك رؤية موحدة أو خطة طويلة المدى لقضايا جوهرية ومصيرية عديدة للعرب، بل هي عدة رؤى لعدة حكّام تتغير مخططاتهم تبعا لأهوائهم الشخصية وأطماعهم، ثم تتغير تلك الرؤى بموت الحاكم أو خلعه، ملكا كان أو رئيس جمهورية، ولذلك يقال أيضا عن النسق الإقليمي العربي بأنه انفعالي، وكذا نسق رد الفعل العاطفي.
أساطير كثيرة في وسائل الإعلام العربية، ويدرسونها في المدارس والجامعات، مثل أن الاستعمار هو سبب كل مشكلاتنا، وأن المستعمرين قسموا الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى طبقا لاتفاقية سايكس بيكو، أو أن القوى الغربية هي المتسبّبة في كل الصراعات العرقية والطائفية والنزعات الانفصالية لدى بعض المجموعات. يتم تحميل الاستعمار والإمبريالية أكثر مما ينبغي. صحيح أن القوى الاستعمارية القديمة والحديثة تبحث دائما عن مصالحها، وكثيرا ما تستغل الخلافات السياسية أو الطائفية أو الاثنية أو تأجيج الصراعات، من أجل إضعاف التكتلات وتدعيم المخططات والأطماع، ولكن تلك هي قواعد السياسة الدولية والعلاقات بين الأمم والممالك والعلاقة بين البشر عموما منذ بدء الخليقة، فالكل يبحث عن مصلحته، فردا كان أو عائلة أو قبيلة أو دولة أو حلفا إقليميا، ولذلك لا يُلام المتآمر حفاظا على مصالحه بقدر ما يُلام الأحمق الذي يُلدغ من الجحر نفسه، ويقع في الفخ نفسه آلاف المرات.
وعند النظر بعيدا عن مسلمات عربية عديدة مرتبطة دائما بنظرية المؤامرة، نجد دائما وجهات أخرى، فتقسيم الدول العربية، بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو، لم يكن نتاج تآمر القوى الاستعمارية وحدها، بل كان الأمراء العرب طرفا مشاركا فيها منذ البداية. ومشكلة الأكراد وعدم إنشاء دولة لهم كانا نتيجة مواءمات واتفاقات إقليمية، كان الأمراء العرب وقتها طرفا فيها، وربما يكون الغرب أجّج كثيرا من الخلافات العرقية والطائفية في المنطقة، ولكن تلك الصراعات موجودة بالفعل، ولم تنتهِ منذ مئات السنين، فالدول الاستعمارية لم تكن موجودة في الحروب والصراعات الدموية بين السنة والشيعة، كما أن بعض الدول والإمارات التي تم تصنيعها في المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى بناء على اتفاقات مع الأمراء العرب الذين ساعدوا بريطانيا ضد الدولة العثمانية، كانت مناطق مليئة بالتناقضات وعدم التجانس بين مكوناتها منذ البداية.
أحداث كبرى كثيرة ونقاط تحول ضخمة ترتبت عليها أحداث جسيمة كانت في الأساس ناتجة عن 
قرارات عنترية وأهواء شخصية للزعماء العرب، قرار تأميم قناة السويس الذي تبعته حرب السويس، وتدخل الجيش المصري في اليمن، والصراعات بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك سعود بن عبد العزيز ثم الملك فيصل، وبين عبد الناصر والملك حسين، وصراعات حزبي البعث العراقي والسوري، وقرار الوحدة بين مصر وسورية بدون تجهيز كاف، ثم الانقلاب على الوحدة، ومواجهات أنور السادات ومعمر القذافي، ومقاطعة مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، قرار رئيس العراق الأسبق صدّام حسين غزو الكويت، وانضمام الدول العربية لتحالفٍ بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت وحماية أمن الخليج، وقرارات وصراعات كارثية عديدة لزعماء وحكام عرب، فالشعوب العربية ليس لها صوت، ولا حق لتقرير المصير.
لا يوجد نسق عربي قائم على المصلحة العربية، ولا يوجد تعريف واتفاق على ما هي هذه المصلحة، وخير مثال على ذلك تضارب المصالح الحادث حاليا في قضايا عربية- عربية، وصراعات عربية- إقليمية، مثل الوضع في ليبيا وقبله الوضع في سورية، والحرب اليمنية، ففي سورية تضاربت المصالح، فكانت السعودية والإمارات وقطر وتركيا داعمةً للمعارضة السورية بالمال والسلاح والتدريب، على الرغم من أن بعض تلك الفصائل المعارضة كان ينتمي للتيار الإسلامي الجهادي العنيف، إلى أن تكون تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي وجّه سلاحه بعد ذلك إلى باقي الفصائل الإسلامية، وأصبح تهديدا لكل دول المنطقة. وفي سورية كذلك تختلف وجهة النظر المصرية عن وجهة نظر الإمارات والسعودية، على الرغم من التحالف والتبعية. وأصبحت سورية كذلك ساحة الحرب بالوكالة بين قوى وأطراف إقليمية ودولية عديدة. ولا تختلف ليبيا الآن عن تداعيات الصراع في سورية قبل ذلك، فهناك قوى عربية، وكذلك إقليمية ودولية، تدعم اللواء المتقاعد حفتر أمام دول عربية وإقليمية داعمة حكومة طرابلس برئاسة فايز السراج. وأصبحت ليبيا ساحة أخرى للحرب بالوكالة، صراع حول النفوذ والبترول وخطوط الغاز مغلف بشعارات، وعبارات دعم العروبة أو محاربة الإرهاب أو دعم الشرعية والحكومة المعترف بها.
هناك عبارات كنا نسمعها ونحن صغار، مثل الموقف العربي الموحد أو المصلحة العربية أو 
الصحوة، ولكنها أضحت مضحكة وجوفاء، وأيضا مصطلحات سابقة مثل القومية العربية التي تصدّعت بعد هزيمة 1967، وانهارت تماما بعد احتلال العراق الكويت، ثم الغزو الأميركي للعراق. ولكن مواقف الدول العربية دائما متناقضة في معظم المواقف والأحداث، ربما لم يتفق العرب إلا في مواقف لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، مثل رفض قرار تقسيم فلسطين عام 1947، ثم قرار دخول الحرب، وإن لم تتم ترجمته لتنسيق عسكري حقيقي. وربما اتفق العرب أيضا بعد عبور 1973 على قرار حظر بيع البترول. تتضارب المواقف نتيجة لتضارب مصالح الحكام وخططهم وأولوياتهم، ويختلف المنظور حول تعريفات ومصطلحات عديدة، مثل المصلحة الوطنية أو الأمن القومي أو الحرب على الإرهاب، كما تختلف التفسيرات بشأن أحداث عربية كبرى عديدة. والآن اختلطت أمور كثيرة كانت تعتبر من الثوابت والمسلمات، فقديمًا كانت إسرائيل العدو، مهما كانت درجة الولاء والتبعية للولايات المتحدة والغرب. أما الآن فأصبحت إسرائيل صديقة معظم الدول العربية، وأصبحت الحامي الأول لأمن الخليج أمام الأطماع الإيرانية، وأصبحت هي الوسيط لدى الإدارة الأميركية، من أجل استئناف المساعدات العسكرية لدول عربية، أو لتقليل الانتقادات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، أو لوقف التحقيقات حول بعض الجرائم، وها نحن سمعنا أخيرا عن هرولة سودانية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تحت شعار المصلحة العامة والوطنية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017