الثورة بين وقتي الكهولة والشباب

الثورة بين وقتي الكهولة والشباب

13 فبراير 2020
+ الخط -
مع أخي الأصغر، الأميركي، الذي حضرَ إلى بيروت في زيارة. تباغته الثورة في أثنائها، فيصبح من المواظبين على تظاهراتها. نتفق على موعدٍ في ساحة رياض الصلح، للمشاركة في واحدةٍ من هذه التظاهرات. وكان من نصيب الأخيرة أنها سجلت أولى هجمات شبّيحة حركة أمل وحزب الله. نتعرّض للضرب بالعصيّ والتدافع والشتائم على أنواعها. تتدخل قوات مكافحة الشغب للفصل بيننا: أي بين المتظاهرين والشبّيحة المعتدين. نحاول أن "نقاوم"، أن لا ينفرط عقدنا، أن نرصّ صفوفنا، أن نحمي سلميتنا. نهتف بها "سلمية سلمية". الشبّيحة يفرضون علينا خطاب أمين عام حزب الله الذي سيلقيه بعد دقائق. من أجل أن نتجمّد، أن نخرس وننْصت إلى هذا الخطاب. جلبوا مكبِّرات الصوت، وعشرات من المستمعين والمستمعات، يجلسون ككتلة واحدة على مدخل مسجد الأمين. يحيط بهم، يحرُسهم عشراتٌ آخرون من الشباب لابسي الأسود، أشداء ومستنفرَون. ينجحون بشلّ تظاهرتنا، وبإسكاتنا أكثر من ساعة ونصف. ونحن، في هذه الأثناء، نغْلي غيظاً. نريد أن نقول شيئاً، أن نجازف، أن نخاطر، ربما بأرواحنا. يحاول بعض الشباب أن يرمي شعارنا "كلن يعني كلن"، أي عدم استثناء زعماء الشبّيحة الهاجمين علينا دفاعاً عن سمو اسميهما. لا يفلحون، فيبقي الصمت، والرضوخ لخطاب الزعيم، وانتظار نهايته. وفي هذه اللحظة البائسة بالذات، يهمس لي أخي، الأصغر مني بعقد ونصف العقد، كلمة تعيدني عشرات السنوات إلى الوراء: "الآن أفهم لماذا حملتم السلاح". هو العارف تاريخ أبناء جيلي، ويقصد ما تهيأ له أولئك الأبناء، عشية الحرب الأهلية، باندفاع وحمية، من أجل خوض حرب، كان يؤمن، في بدايتها بأنها "تحرّرية". قبل أن تتحوّل، وبسرعة، إلى حربٍ أهليةٍ طويلة، حصدنا منها ما نراه اليوم من أسبابٍ وجيهة لاشتعال ثورتنا الراهنة. 
في واقعة أخرى، وفي ساحة التظاهر نفسها، ألتقي بشابّة لا تتجاوز العشرين عاما من العمر. مواظبة على إحدى الخيم، على الثورة. تدور بيننا درْدشةٌ عن الثورة. هي متحمّسة، تلحقها
كلماتها، تتدفّق عليها. واثقة بأن الثورة سوف تحقق أهدافها. في غد قريب. تعطي براهينها. وجلّها منطقي ومقنع. فتعود وتتحمّس، وتجرّني إليها. تعْديني. أخرج من هذه الدرْدشة مفعمة بحماستها. ولكن بعد برهة، أستعيد نفسي. لا... لا تصمد حماسة هذه الشابة. غير مقنعة، غير واقعية. أكاد أن أستنكرها لو لم أتذكّر نفسي، وأنا في عمرها. أي قبل ما يفوق الآن أربعة عقود، فأقارن بين حماستي الماضية وحماستها الحاضرة، فأجد أنني كنتُ أكثر استعجالاً منها، أكثر اندفاعاً، وربما جنوناً. كنتُ على يقينٍ تام بأن غداً، بفضل ثورتنا، ستكون مجالس المندوبين البلشفية (نعم بلشفية)، والعدالة والطريق الصحيح نحو مجتمع الطوبى الكاملة... إلخ. هكذا كنتُ أحاول أن أفهم استعجال هذه الشابة ويقينها. لا يختلفان عما كنتُ عليهما، وأنا في عمرها.
كلمة أخي الصغير، وكلمات الشابّة النضِرة، رافقتهم أقوالٌ وأعمال أخرى، جعلتني أكثر حساسيةً تجاه مسألة الوقت والعمر. خصوصاً عندما حلّ العنف على بعض التظاهرات، وعندما وقع اللوم على المتظاهرين. وقتها، أجد نفسي في حيرةٍ أمام مشاهد التدافع والمواجهة ومحاولات تجاوز الأسوار المغْلقة: من جهةٍ، أدين هذا النوع من العنف القادم من غضب صِرف ومباشر، لأنه يضيّع معنويات الثورة وجمهورها، وقد يحرفها عن أهدافها وطُرُقها. ومن جهة أخرى، أفهم هذا الغضب الذي يملك كل مبرّراته. لأنني مثل أصحابه، متضرِّرة بشدة من حكم اللصوص والفاشلين. أعود فأتذكّر نفسي، عندما كنتُ في عمر هؤلاء الشباب، أتذكر رفاقي الذين كانوا معي: كنا مثلهم، نبحث عن أية مواجهةٍ مع القوى الأمنية، نفرح لاحتدامها، ولا نفكّر لحظة في أن مكروهاً ما قد يصيبنا. فيما أنا اليوم لا أستطيع تصوّر نفسي وسط هذه الملحمة. ببساطةٍ، لأن جسمي لا يستجيب لي، ولأن أوجاعه تذكّرني كل لحظة بضرورة الانتباه إلى كل خطوةٍ أخطوها على الأرض، فأتراجع عن الإثنين: الإدانة والامتداح. لا لأنني محايدة، فأنا مع الثورة. بل لأنني لا أستطيع أن أعِظ بما كنتُ أخالفه صراحةً أيام شبابي. أيضا ما كان يكْبح جماحي في الإرشاد تلك اللازمة التي أطلقها الشباب الثوار، منذ يومهم الأول، أن الجيل الجديد لن يقبل بما قبل به آباؤهم. أنهم لن يفشلوا مثلهم. لن يخضعوا، لن يخسروا، مثلهم. وذلك عن مرارة، وربما أيضاً عن شفَقة على أولئك الآباء.
تلك الوقائع، تلك الكلمات، تلك اللازمة... كلها قادتني إلى مفارقةٍ، وجوديةٍ أكثر من سياسية، أو بالأحرى وجودية - سياسية، قوامها الآتي: للشباب وقت طويل أمامهم. على الأقل خمسة عقود. 
ولكنهم يعملون وكأنهم ليس لديهم الوقت للتوقّع الأقل، للإصرار على السلمية، لنضوج "المعطيات". قلّة الصبر الممْهور بالغضب الخام: تلك هي سِمة حركتهم التي تفصح عنها أيضا أقوالهم. يقابلهم الكهول، الذين لم يًعُد لهم وقت كثير. كلما أمعنوا بالتفكير في المستقبل انتصب بوجههم سورٌ عال، منذراً بنهاية أفقهم. ومع ذلك، يتحلّى هذا الأفق، الأضيق من أفق الشباب، عندهم بنوع من الصبر الذي لم يألفوه أيام شبابهم. لذلك، فإن غضبهم ممْسوكٌ بالقدر الممْكن من الإمساك، أي بالقدر الواعي منه، المضبوط. وهذا ما يتناقض مع رذالة عمرهم التي تجعلهم في أماكن أخرى نزِقين، وحمقى.
وخلاصة المفارقة: إن الشباب صاحب الوقت، يسلك طريقه، وكأن هذا الوقت يداهمه، فيما الكهول الذين لم يعُد لديهم وقت كثيرون، يتصرَّفون، وأحيانا ينظِّرون، كأن هذا الوقت ممتد أمامهم إلى ما لا نهاية، فينصحون بالتأنّي والاتّزان.