هل يفعلها عبّاس هذه المرّة ويقلب الطاولة؟

هل يفعلها عبّاس هذه المرّة ويقلب الطاولة؟

31 يناير 2020

عباس في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني (15/8/2018/فرانس برس)

+ الخط -
في كلمته في اجتماع موسع، يوم الثلاثاء الماضي، ليعلن فيه رفض الفلسطينيين "صفقة القرن" التي كان أعلنها قبل ساعات في واشنطن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وبجانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، شدّد الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، على أن "هذه الصفقة تعتبر نهاية وعد بلفور، وأميركا أسّست وعدًا جديدًا وبدأت بتطبيقه". مضيفاً: "صفقة ترامب تستند إلى وعد بلفور الذي وضعته أميركا مع بريطانيا، وهدفها تصفية القضية الفلسطينية". لا خلاف كبيرا هنا لناحية التأطير الذي قدمه عبّاس في هذه النقطة، غير أن السؤال الذي يثور في هذا السياق مفاده بأنه إذا كان صانع القرار الفلسطيني الرسمي يدرك هذا المعطى وغيره لناحية المركزية الأميركية في إنشاء المشروع الصهيوني وترسيخه تاريخياً، فلماذا اختار، إذن، على مدى عقود، أن يضع كل بيضه في سلتها؟ للأسف، وبغض النظر عن الإجابة ومسوغاتها، إلا أن الكارثة قد حلّت بالمشروع الوطني والحقوق الوطنية الفلسطينية جرّاء إهمال هذه الحقيقة الموثّقة، والتي لم تكن خافيةً عن القيادة الرسمية. 
في السياق المرجعي لتأطير عبّاس السابق، من المهم أن ندرك أن السياسة الخارجية الأميركية نحو الشرق الأوسط لم تتأسّس على الانحياز المطلق لصالح إسرائيل منذ قيامها عام 1948 فحسب، غير أن قليلين يعلمون أن حكومة رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد لويد جورج، تردّدت طويلا في إصدار وعد بلفور للحركة الصهيونية عام 1917، إلى أن ضمنت موافقة الرئيس الأميركي، ويدرو ويلسون، عليه أولاً ومباركته له. وفي سبتمبر/أيلول 1922، تبنّى الكونغرس الوعد رسمياً. أحسب أن هذا هو ما كان يحيل إليه عباس في خطابه.
ما جرى بعد ذلك وقائع تاريخية لا خلاف فيها ولا عليها، فالولايات المتحدة، وتحت إداراتها 
المتعاقبة، منذ 1948، ديمقراطية كانت أم جمهورية، هي من دعمت إسرائيل ديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ قيامها، وعملت على ضمان بقاء تفوقها الكمّي والنوعي. لم تشذّ إدارة أميركية واحدة في هذا السياق، من دون أن يعني ذلك غياب توترات في العلاقات بين بعض الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية. ولكن هذه كانت، في الغالب، توترات حول أسلوب إدارة ملفات الصراع في الشرق الأوسط، لا على أصل التحالف وجذره بين الطرفين.
بمعنى آخر، لم تخدع واشنطن الفلسطينيين يوماً، فهي دائماً ما أعلنت أنها في العلاقة مع إسرائيل منحازة لها، وستبقى منحازة لها، لم يتغير ذلك منذ الرئيس هاري ترومان، ولم يتغير ذلك حتى تحت إدارات عُدّت أكثر "تفهماً" للفلسطينيين، كإدارات جيمي كارتر وجورج بوش الأب وباراك أوباما. صانع القرار الرسمي الفلسطيني هو من اختار طائعاً أن يغضّ الطرف عن تلك الحقائق الدامغة، وهو من قبل بأميركا "وسيطاً نزيهاً" منذ 1991، مُضْعِفاً في ذلك مرجعية الأمم المتحدة، والتي هي بحد ذاتها لا تختزن من الحقوق الفلسطينية إلا أقلها. ونتيجة لذلك الخطأ الاستراتيجي الكارثي في الحسابات الفلسطينية الرسمية، جاءت اتفاقية أوسلو عام 1993 والتي اصطنعت "سلطة فلسطينية" على بعض أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، لتؤدّي أدواراً وظيفية أمنية وبلدية محدّدة، رافعة في ذلك الكلف الباهظة عن الاحتلال، وهو ما سهل عليه تعزيز سيطرته على "القدس الشرقية" والضفة الغربية عبر المستوطنات، دع عنك اختراق المنظومة العربية الرسمية.
المفارقة هنا أن الأميركيين طالبوا القيادة الرسمية الفلسطينية، منذ إدارة بيل كلينتون، بأن يعترفوا بـ"الحقائق على الأرض" التي خُلِقَتْ تحت ناظريهم، بل إنهم ساهموا في إفساح المجال لها! وعندما أيقن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، هذه الحقيقة التي كانت بادية للعيان قبل ذلك، وبأن المطلوب من السلطة الفلسطينية أن لا تكون شاهدة زور فحسب، بل وأن تمكّن إسرائيل من تهويد القدس وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية، بشرعيةٍ فلسطينية، رفض ذلك في قمة كامب ديفيد، عام 2000، ودفع حياته ثمناً لذاك الموقف، بعد أن حوصر أربع سنوات.
إذن، صُفِّيَ عرفات الذي اتهمته إدارة بوش الابن وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرئيل شارون، بأنه كان "عقبة في طريق السلام". وجاء عباس، عام 2005، الذي وصفه بوش بأنه "رجل سلام"، وأعاد ضبط الدور الوظيفي للسلطة، أمنياً وبلدياً، بعد أن حاول عرفات إعادة تعريفه وطنياً خلال انتفاضة الأقصى في خريف عام 2000 وإلى حين مقتله في شتاء عام 2004. وعلى الرغم من أن "رجل السلام" كان وفياً للدور الذي ارتآه الأميركيون والإسرائيليون له، إلا أنه لم يستطع أن يحصل على شيء في المقابل. حتى التنازلات الهائلة التي عرضها على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، في الأعوام بين 2006 - 2009، وَكُشِفَ النقاب عنها عام 2010، ضمن ما عرفت بـ"وثائق الجزيرة"، لم تجد تجاوباً إسرائيلياً. ومع ذلك كله، استمر الدور الوظيفي للسلطة معزّزاً للاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في الجانب الأمني، على الرغم من اتخاذ المجلسين، الوطني والمركزي الفلسطينيين، قرارات قاطعة في السنوات الأخيرة بوقف "التنسيق الأمني" مع إسرائيل.
في كلمته أخيرا، تحدّث عبّاس، بلغة واضحة وقاطعة، بأنه سيتم البدء فوراً باتخاذ كل الإجراءات 
التي تتطلب تغيير الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، تنفيذًا لقرارات المجلسين الوطني والمركزي، ودعا "الكل الفلسطيني إلى رصّ الصفوف وتعميق الوحدة الوطنية". نتمنّى أن تكون هذه لحظة تغيير حقيقية في مواقف عبّاس، خصوصاً بعد أن قطع ترامب تخرّصات المراهنين على موقف أميركي "متوازن". كما نتمنّى أن نشهد إعادة إطلاق للمشروع الوطني الفلسطيني، المستلهم للثوابت الوطنية والمؤسس على الحقوق غير القابلة للتصرّف. كما نتمنّى أن نرى دفناً لانقسام العار بين حركتي حماس وفتح، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، وألا نحقق رغبة واشنطن وتل أبيب بقيام "حرب أهلية" فلسطينية حضّت عليها "صفقة القرن". لقد اتضحت حدود السقف الأميركي - الإسرائيلي المنخفض فيما يطرح على الفلسطينيين، حتى لو نفّذوا كل الاشتراطات المطلوبة منهم، فلن تكون هناك دولة بسيادة، ولن تكون هناك عاصمة في "القدس الشرقية"، ولن يكون هناك تفكيك للمستوطنات وترحيل للمستوطنين من الضفة الغربية، ولن يكون هناك حق عودة للاجئين، ولن تكون هناك حدود للدولة الفلسطينية العتيدة.. إلخ.
كلمة أخيرة، هل أنا متفائل بتحوّل جذري في موقف القيادة الرسمية الفلسطينية، وتحديدا الرئيس عبّاس؟ أكذب إن قلت نعم، فتجاربنا السابقة معها لا تبشّر بخير، وهي دائما تصدمنا في عجزها عن إدراك حساسية التحدّيات التي نواجهها وخطورتها، وإلى اليوم لم نرَ بوادر تدفعنا إلى التفاؤل. أبعد من ذلك، السلطة الفلسطينية صمّمت بطريقة غير قابلة للفطام عن الثديين، الأميركي والإسرائيلي، ومن يحاول فرض ذلك يكون مصيره كمصير عرفات. أتمنّى أن أكون مخطئا، فهذه من المواقف التي لا ينبغي أن يتمنّى المرء أن يصيب فيها، ولكن الأمور لا تأتي بالتمنّي، ولا بالشعارات الرنانة التي لا تلبث أن تنطفئ جذوتها.